فإن قيل : ما جوابكم عن هذه الآية ؟.
فنقول : فيه وجهان : الأول : أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لما قال ﴿ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾، كان ذلك جارياً مجرى المدحِ لنفسه، وتزيكتها ؛ وقال ـ سبحانه ـ ﴿فَلاَ تُزَكُّوا ااْ أَنفُسَكُمْ﴾ [النجم : ٣٢] فاستدركه على نفسه بقوله :﴿وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِى ﴾، والمعنى : فلا أزكِّى نفسيح ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّواءِ﴾، ميَّالةٌ إلى القبائحِ، راغبٌ في المعصيةِ.
الثاني : أنَّ الآية لا تدلُّ البتة على شيءٍ مما ذكروه ؛ لأنَّ يوسف ـ صوات الله وسلامه عليه ـ لما قال :﴿ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾، بيَّن أنَّ ترك الخيانة ما كان لعدمِ الرغبة، ولعدم ميل النفس، والطعبيةِ ؛ لأنَّ النفس أمَّارة بالسوءِ، توَّاقةٌ إلى اللذات، فبيَّن بهذا الكلام أن ترك الخيانة، ما كان لعدم الرغبةِ، بل لقيام الخوف من الله ـ تعالى ـ.
وإذا قلنا : إنَّ هذا الكلام من بقية كلامِ المرأةِ، ففيه وجهان : الأول :﴿وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِى ﴾، عن مراودته، ومرادها تصديقُ يوسف في قوله :﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي﴾ [يوسف : ٢٦].
والثاني : أنها لما قالت :﴿ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾، قالت :﴿وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِى ﴾، من الخيانة مطلقاً ؛ فإنٍّي قد خنته حين أحلت الذنب عليه، وقلت :﴿مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُواءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [يوسف : ٢٥] ؛ وأودعته في السِّجن، كأنَّها أرادت الاعتذارَ مما كان.
فإن قيل : أيُّهما أولى، جعل هذا الكلام كلاماً ليوسف، أم جعله كلاماً للمرأة.
قلنا : جعله كلاماً ليوسف مشكل ؛ لأنَّ قوله :" قالت امرأة العَزيزِ الآن حَصْحَصَ الحقٌّ " كلامٌ موصولٌ بغضه ببعضٍ إلى آخره، فالقول بأنَّ بعضه كلام المرأةِ، والبعض كلام يوسف، تخلُّل الفواصل الكثيرة بين القولين، وبين المجلسين بعيد.
فإن قيل : جعله كلاماً للمرأة مشكل أيضاً ؛ لأن قوله ﴿وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّواءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّى ﴾ كلامٌ لا يحسنُ صدوره إلاَّ ممَّن احترز عن المعاصِي، ثم يذكر هذا الكلام على سبيل النَّفس، ولا يليق ذلك بالمرأةِ التي استفرغت جهدها في المعصية.
قوله :﴿إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّى ﴾ فيه أوجهٌ : أحدها : أنه مستثنى من الضمير المستكنِّ في " أمَّارةٌ " كأنه قيل : إن النفس لأمارةٌ بالسوءِ إلاَّ نفساً رحمها ربِّي، فيكون أراد بالنفس الجنس ؛ فلذلك ساغ الاستثناء منها ؛ لقوله تعالى :﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ [العصر : ٢، ٣] وإلى
١٣٢
هذا نحا الزمخشريُّ ـ رحمه الله ـ فإنه قال :" إلا البعض الذي رحمهُ ربِّي بالعصمة ؛ كالملائكة ".
وفيه نظرٌ ؛ من حيث إيقاع " ما " على من يعقل، والمشهور خلافه.
قال ابن الخطيب :" ما " بمعنى " مَنْ " أي : إ لا من رحم ربي، و " مَا " و " مَنْ " كلُّ واحدٍ منهما يقوم مقام الآخر ؛ قال تعالى :﴿فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ﴾ [النساء : ٣]، وقال :﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ﴾ [النور : ٤٥].
والثاني : أنَّ " مَا " في معنى الزمان ؛ فيكون مستثنى من الزمنِ العامِ المقدر، والمعنى : إنَّ النَّشفس لأمارة بالسوءِ في كل وقتٍ وأوانٍ، إلاَّ ـ وقت رحمة ـ ربِّي إيَّاها بالعصمةِ.
ونظره أبو البقاءِ بقوله :﴿وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ﴾ [النساء : ٩٢]، وقد تقدَّم [النساء : ٩٢] أنَّ الجمهور لا يجيزون أن تكون " أنْ " واقعة موقع ظرف الزمان.
والثالث : أنه مستثنى من معفولِ " أمَّارةٌ "، أي : لأمَّارة صاحبها بالسُّوءِ إلا الذي رحمه الله، وفيه إيقاع " مَا " على العاقل.
والرابع : أنه استثناء منقطع، قال ابن عطيَّة : وهو قول الجمهور.
وقال الزمخشريُّ : ويجوز أن يكن استثناء منقطعاً، أيك ولكن رحمةُ ربي التي تصرفُ الإساءة ؛ كقوله :﴿وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا﴾ [يس : ٤٣، ٤٤].
فصل في أن الإيمان والطاعات لا يحصلان للعبد إلا برحمة الله له هذه الآية تدل على أن الطاعات والإيمان لا يحصلان إلا من الله تعالى ؛ لقوله ـ تعالى ـ :﴿إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّى ﴾ فدلَّ ذلك على إنَّ انصراف النفس من السوءِ لا يكون إلا برحمة الله، ودلَّت الآية على أنَّ من حصلت تلك الحرمةُ له، حصل ذلك الانصرافُ، ولا يمكن تفسيرُ هذه الرحمة بإعطاءِ العقل، والقدرةِ، والألطافِ، كما قاله القاضي ـ رحمه الله ـ ؛ لأنَّ كلَّ ذلك مشتركٌ بين الكافر والمؤمن، فوجب تفسيرها بشيءٍ آخر، وهو ترجيحُ داعية الطاعة على داعيةِ المعصيةِ.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ١٢٥