قوله تعالى :﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾.
لما تبيَّن للملكِ عذرُ يوسف وعرف أمانتهُ وعلمهُ، قال :﴿ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾، أي : أجعله خالصاً لنفسي.
١٣٣
قال القرطبيُّ :" انظر إلى قول الملكِ أولاً حين تحقَّق علمهُ :" ائتُونِي بِهِ "، فقط فلمَّا فعل يوسف ما مفعل، قال ثانياً ﴿ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾ والاستخلاصُ : طلب خلوصِ الشَّيء من شوائبِ الإشراكِ ".
قال القرطبي :" أسْتَخْلصهُ " جزم ؛ لأنه جواب الأمرِ ؛ وهذا يدل على أنَّ قوله :" ذلِكَ ليَعْلمَ "، جرى في السجن، ويحتمل أنه جرى عند الملك، ثم قال في جلس آخر :" ائتُوني بِهِ " ؛ تأكيداً.
واختلفوا في هذال الملك، فقيل : هو العزيز، وقيل هو الملك الأكبر.
وهذا هو الاظهر لوجهين : الأول : لقول يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ :﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ﴾.
الثاني : أن قوله :﴿أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾ يدلُّ على أنه قبل ذلك، ما كان خالصاً له، وكان خالصاً للعزيزن فدلَّ على أنَّ هذا الملك هو الملك الأكبر.
قوله :" فَلمَّا كَلَّمهُ "، يجوز أن يكون الفاعل ضمير الملكِ، والمفعول يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ هو الظاهر ؛ لأنَّ مجالس الملوكِ لا يحسنُ لأحدٍ أن يبدأ فيها بالكلام، وإنما الملك هو الذي يبدأن ويجوز العكس، وفي الكلام اختصارٌ تقديره : فجاء الرسول يوسفن فقال له : أجب الملك الآن.
فصل رُوِيَ أنَّه قام، ودعا لأهلِ السِّجن، فقال : اللَّهُمَّ اعطف عليهم قلوب الأخيار، ولا تعمِّ عليهم الأخبار، فهم أعلمُ النَّاس بالأخبار في كل بلدٍ.
فلما خرج من السِّجن، كتب على السجن : هذا قبرُ الأحياءِ، وبيتُ الأحزانِ، وتجربة الأصدقاءِ، وشماتةُ الأعداءِ، ثمَّ اغتسل، وتنظَّف من درنِ السِّجن، ولبس ثِياباً حسنة وقصد الملكَ.
وقال وهبٌ ـ رحمه الله ـ : كَانَ يوسفُ ـ يومئذ ـ ابن ثلاثين سنة، ولما دخل عليه دعا، وقال : اللهمَّ إني أسالك بخيرك من خيره، وأعوذُ بعزَّتكَ وقُدرتِكَ من شرِّه، ثمَّ سلَّم عليه العربيَّة، فقال الملك : ما هذا اللسانُ ؟ قال : لِسانُ عمِّي، إسماعيل، ثم دعا لهُ بالعِبرانِيّةِ، فقال : ما هذا اللسانُ ؟ قال : لِسانُ آبائي : إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وكان الملك يتكلَّم بسبعين لساناً، وكُلمَّا كَلَّمَ يوسف بلسانٍ، أجابه بذلك اللسان ؛ فأعجب الملك أمرهُ، كان يوسف إذ ـ ذاك ـ ابن ثلاثين سنة، فلما رآه الملكُ حدثاً شابًّا، قال
١٣٤