للشرابي : هذا هو الذي علم تأويل رُؤياي ؟ قالك نعم، فأقبل على يوسف، فقال الملك : أحبُّ أن أسمع منك تأويل رؤياي شفاهاً.
فأجابه بذلك الجواب شفاهاً، وشهد قلبه بصحته ؛ فعند ذلك قال له الملك :﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ﴾ يقال : فلانٌ مكينٌ عند فلانِ، بَيِّنُ المكانة، أي : المنزلة، وهي حالةٌ يتمكن بها صاحبها مما يريد، وقوله :" أمِينٌ " أي : قد عرفنا أمانتكَ، وبراءتك مما نسبت إليه.
واعلم أن قوله :" أمِينٌ " كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يحتاج إليه من الفضائلِ، والمناقبِ ؛ وذلك لأنَّه لا بُدَّ في كونه أميناً من القدرة والعلم، أما القدرة ؛ فلأن يحصل بها المكنةُ، وأما العلم ؛ فلأنَّ كونه متمكِّناً من أفعال الخيرِ لا يحصل إلاَّ به، إذ لو لم يكن عالماً بما ينبغي، وبما لا ينبغي، لا يمكن تخصيص بيان ما ينبغي بالفعل، ولا تخصيص ما لا ينبغي بالتِّرك ؛ فثبت أنَّ كونه مكيناً لا يحصل إلاَّ بالقدرةِ والعلمِ، وأما كونه أميناً، فهو عبارةٌ عن كونه لا يفعل الفعل لداعي الشَّهوة، وإنَّما يفعله لداعي الحكمةِ، فثبت أنَّ كونه مكيناً أميناً يدلُّ على كونه قادراً، وعلى كونه عالماً بمواضع الصًَّلاح، والفسادِ، وعلى كونه يفعل لداعي الحكمة، لا لداعي الشَّهوة، وكل من كان كذلك، فإنَّه لا يصدر عنه فعلُ السُّوء والفحشاء.
ثم حكى ـ سبحانه وتعالى ـ أنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام ـ قال في هذا المقام :﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ قال المفسرون : لمَّا عبَّر يوسف رؤيا الملك بين يديه، قال له الملك : فما ترى أيُّها الصديقُ ؟ فقال : أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعاً كثيراً، وتبني الخزائنن وتجمع فيها الطَّعام، فإذا جاءت السنون المجدبةُ بعت الغلات، فيحصل بهذا الطريق مالٌ عظيمٌ، فقال الملك : ومن لي بهذا الشُّغل ؟ فقال يوسف :﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ﴾، أي : على خزائن أرض مصر.
أدخل الألف واللام على الأرض والمراد منه المعهود السابق.
روى ابنُ عبَّاسٍ ـ رضي البله عنهما ـ عن رسول الله ﷺ أنَّهُ قال :" رحِمَ اللهُ أخي يوسف، لو لَمْ يقُل : اجعلنِي على خَزائنِ الأرض لا ستَعْملهُ من سَاعتهِ لكنَّهُ لمَّا قال ذلِكَ أخَّرهُ عنهُ سنَةً ".
قال ابن الخطيب :" وهذا من العجائب ؛ لأنه لما تأبَّى عن الخروج من السِّجن، سهَّل الله عليه ذلك على أحسنِ الوجوه، ولما سارع في ذكر هذا الالتماسِ، أخَّر الله ذلك
١٣٥
المطلوب عه، وهذا يدلُّ على أنَّ ترك التَّصرفِن والتفويض إلى الله ـ تعالى ـ أولى.
فإن قيل : لِمَ طلب يوسف الإمارة، والنبي ﷺ قال لعبدِ الرَّحمنِ بن سمُرة :" يَا عَبْدَ الرَّحمنِ : لا تَسْألِ الإمَارَةَ " ؟.
وأيضاً : فكيف طلب الإمارة من سُلطانٍ كافرٍ ؟ وأيضاً : لِمَ لَمْ يصبر مُدَّة فأظهر الرغبة في طلب الإمارة ؟ وأيضاً : لم طلب أمر الخزائنِ في أوَّل الأمْرِ، مع أنَّ هذا يورثُ نوع تهمةٍ ؟ وأيضاً : كيف مدح نفسه بقوله :" إني حفيظ عليم " ؟ مع أنه ـ تعالى ـ قال :﴿فَلاَ تُزَكُّوا ااْ أَنفُسَكُمْ﴾ [النجم : ٣٢]، وأيضاً ما الفائدة في قوله :" إنِّي حفيظٌ عليمٌ " ؟ ولِمَ لَمْ يقل : إن شاء الله ـ تعالى ـ ؛ لقوله تعالى ﴿وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ﴾ [الكهف : ٢٣ـ٢٤] ؟.
فالجوابك أن الأصل في جواب هذه المسألةِ : أنَّ التَّصرف في أمور الخَلقِ كان واجباً عليه فجاز له أن يتوصل إليه بأي طريق كان إنما قلنا إن ذلك التصرف كان واجبابً عليه لوجوه : الأول : أنه كان رسُولاً حقًّا من الله ـ تعالى ـ إلى الخلق، والرسول تجب عليه مصالحُ الأمةِ بقدر الإمكانِ.
والثاني : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ علمَ بالوحي أنًَّهُ سَيحْصُلُ القَحْطُ والضيقُ الشديد، الذي ربَّما أفضى إلى هلاك الخلق، فلعلَّه ـ تعالى ـ أمره بأن يدبِّر في ذلك الوقت، ويأتي بطريقٍ في آجله يقلُّ ضَررُ ذلك القحْطِ في حق الخلق.
الثالث : أنَّ السَّعي في إيصال النفع إلى المُستضعفين، ودفع الضرر عنهم ـ أمرٌ مستحسنٌ في العقول.
وإذا ثبت هذا، فنقولُ : إنه ﷺ مكلَّفاً برعاية المصالح من هذه الوجوه، و ما كان يمكنه رعايتها إلاَّ بهذا الطريق، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به، فهو واجبٌ، فكان هذا الطريق واجباً، ولمَّا كان واجباً، سقطتِ الأسئلة بالكلية.
وأما تركُ الاستثناءِ، فقال الواحديُّ :" كان ذلك من خطيئةٍ أوجبتْ عُقوبةٌ وهو أنه ـ تعالى ـ أخَّر عنه حصول ذلك المقصودِ سنةً ".
قال ابنُ الخطيب :" لعلَّ السبب فيه أنه لو ذكر هذا الاستثناء، لاعتقد الملكُ فيه أنه ذكره لعلمه بأنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي ؛ فالأجل هذا المعنى ترك الاستثناء ".
١٣٦


الصفحة التالية
Icon