وأما قوله لِمَ مَدحَ نفسه ؟ فجوابه من وجوه : الأولك لا نُسلِّمُ أنه مدح نفسه، بل بيَّن كونه موصوفاً بهاتين الصفتين الوافيتين بحصولِ هذا المطلوبِ، فاحتاج إلى ذكر هذا الوصفِ ؛ لأنَّ الملك ـ وإن علمَ كمالهُ في علومِ الدين ـ ما كان عالماً بأنه يفي بهذا الأمر.
ثم نقول : هبْ أنَّه مدح نفسه، إلاَّ أنَّ مدح النفس لا يكونُ مذموماً ؛ إلا إذا قصد به الرجل التَّطاول، والتفاخر، والتوصل إلى ما لا يحلُّ، وأمَّا على هذا الوجه، فلا نسلِّم أنه يحرمُ، وقوله تعالى ﴿فَلاَ تُزَكُّوا ااْ أَنفُسَكُمْ﴾ [النجم : ٢٣]، والمراد منه : تزكيةٌ النفس وهو يعلمُ كونها غير زَكيَّةٍ ؛ ويدلُّ عليه قوله تعالى ـ بعده :﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النجم : ٢٣] أما إذا كان عالماً بأنه صدقٌ، فهو غير ممنوعٍ منه، والله أعلم.
وأما القول : ما الفائدة في وصف نفسه بأنه حفيظٌ عليمٌ ؟.
قلنا : إنه جار مجرى أن يقول : حفيظٌ بجميع الوجوه التي منها يمكن الرجل تحصيل المالِ، وعليمٌ بالجهاتِ التي تصلح لأن يصرف المال إليها، أو حفيظ للخزائن عليمٌ بوجوه مصَالِحهَا أو كاتبٌ حَاسِبٌ، أو حفيظٌ لِمَا اسْتودَعْتَنِي، عليمٌ بما وليتني، أو حفيظ للحساب، عليمٌ بالألسن، أعلمُ لغة من يأتيني.
وقال الكلبيُّ :" حفيظٌ بتقديره في السِّنين الخصبةِ، عليم بوقت الجوعِ حين يقعُ في الأرض الجَدبةِ ".
فقال الملك : من أحقُّ به مِنْكَ فولاَّهُ ذلك، وقال له :﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ﴾ ذُو مكانةٍ ومنزلةٍ، أمينٌ على خزائنِ الأرض.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ١٣٣
قوله تعالى :﴿وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ﴾ الآية قال المفسرون : لما التمس من الملكم أن يجعله على خزائن الأرض، لم يذكر الله عن الملك أنه قال : قد فعلتُ ؛ بل قال :﴿وكذلك مكنا ليوسف في الأرض﴾ ؛ فقال المفسرون : ف يالكلام محذوفٌ تقديره : قال الملك : قد فعلت ؛ لأنَّ تمكين الله له في الأرض يدلُّ على أن الملك قد أجابه ما سأل.
قال ابن الخطيب :" وما قالوه حسنٌ، إلا أنَّ هاهنا ما هو أحسن منه، وهو أنَّ ما
١٣٧
أجابه الملك في عالم الظاهر، وأمَّا المؤثر الحقيقيُّ، فليس إلاَّ أنه ـ تعالى ـ هو الذي مكَّنه في الأرض، وذلك ؛ لأنَّ الملك كان متمكناً من القبول والرد فنسبة قدرته إلى القبول والرد على التَّساوي وما دام يبقى هذا التَّساوي، يمتنعُ حصولُ القبولِ، فلا بُدَّ وأن يرجح القبولُ على الردِّ في خاطر ذلك الملك ؛ وذلك لأنَّ الترجيح لا يكونُ إلاَّ بمرجعٍ يخلقهُ الله ـ تعالى ـ وإذا خلق الله ذلك المرجح، حصل القبولُ لا محالة، فالتمكين ليوسف في الأرض ليس إلاَّ من خلق الله ـ تعالى ـ بمجموع القدرة والدَّاعية الجازمة التي عند حصولها، يجب ُ ألاَّ يؤخَّر هذا السببُ، فترك الله إجابة الملك، واقتصر على ذكر التَّمكينِ الإلهي ؛ لأنَّ المؤثِّر الحقيقيَّ ليس إلا هو ".
قوله :" وكَذلِكَ " الكافُ منصوبةٌ بالتمكين، و " ذلِكَ " إشارةٌ إلى ما تقدم أي : ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبنا إياه من قلب الملكِ، وإنجائنا إياه من غمِّ الحَبْس، ﴿مَكنا له في الأرض﴾.
ووله :" لِيُوسُف " يجوز في هذه اللام أن تكون متعلقة بـ " مَكَّنَّا " على أن يكن مفعول " مَكَّنَّا " محذوفاً، تقديره : مكنا ليسوف الامورَ، أو على أن يكون المفعول به " حَيْثُ "، كما سيأتي، ويجوز أن تكون زائدة عند من يرى ذلك.
وقد تقدَّم أنَّ الجمهور يأبون ذلك إلاَّ في موضعين.
وقله " يَتَبَوَّأ " جملةٌ حاليةٌ من " يُوسفَ "، و " مِنْهَا " يجوز أن تتعلَّق بـ " يَتَبَوَّأ "، وأجاز أبو البقاءِ : أن يتعلق بمحذوفٍ، على أنَّها حالٌ من " حَيْثُ "، و " حَيْثُ " يجوز أن يكون ظرفاً لـ " يَتَبَوَّأ "، ويجوز أن يكون مفعولاً به وقد تقدم تحقيقه في الأنعامِ.
وقرأ ابن كثير :" نَشَاءُ " بالنُّون على أنَّها نونُ العظة لله تعالى.
وجوَّز أبو البقاء : أن يكون الفاعل ضمير يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قال :" لأنَّ مشيئتهُ من مشيئةِ اللهِ ـ عز وجل " ؛ وفيه نظرٌ ؛ لأن نظم الكلام يأباهُ.
والباقون : بالياء على أنه ضمير يوسف، ولا خلاف في قوله :" نُصِيبُ بِرحْمتِنَا من نَشاءُ "، أنَّها بالنون.
وجوزَّ أبو حيَّان : أن يكون الفاعل في قراءة الياء ضمير الله تعالى، ويكون التفاتاً.
ومعنى " يَتَبَوَّأ منها " أي : ينزلُ مها حيث يشاء ويصنع فيها ما يشاء.
١٣٨


الصفحة التالية
Icon