وقرأ الجُمْهُورُ :" الحَمْدُ للهِ " برفْعِ وكسرِ لاَمِ الجَرِّ، ورفعُهُ على الابتداءِ، والخبرُ الجارُّ والمجرورُ بعده يَتَعَلَّقُ بمحذوفٍ وهو الخَبَرُ في الحقيقة.
ثم ذلك المحذوفُ إن شئتَ قدَّرْتَهُ [اسْماً، وهو المُخْتارُ، وإن شِئْتَ قَدَّرْتَهُ] فِعْلاً أَي : الحمدُ مُسْتَقِرٌّ لله، واسْتَقَرَّ لله.
والدليلُ على اختيارِ القَوْلِ الأَوَّلِ : أَنَّ ذَلك يَتَعَيَّنُ في بَعضِ الصورِ، فلا أَقَلُّ مِنْ
١٧٠
ترجيحِه في غَيْرِها، وذلك أنّك إذا قُلْتَ :" خَرجتُ فإِذَا في الدَّارِ زَيْدٌ " وأمَّا في الدَّارِ فَزَيْدٌ " يتعيّنُ في هاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ [أن يقدر بالاسم] ؛ لأنَّ " إذا " الفُجائية وأَمَّا الفُجائية وأَمَّا التَّفصِيليَّةُ لا يَلِيهِمَا إلاَّ المبتدأ.
وقد عُورِضَ هذا اللَّفظُ بأنه يَتَعيَّنُ تقدير الفِعْلِ في بعضِ الصُّورِ، وهو ما إِذا وَقَعَ الجَارُّ والمجرورُ صِلَةً لموصولٍ، نحو : الَّذي في الدارِ فليكن رَاجِحاً في غيره ؟ والجوابُ : أَنَّ ما رجحنا به من باب المبتدإِ، أَو الخبر، وليس أَجْنَبِيَّا، فكان اعتباره أوْلَى، بخلاف وقوعه صِلةً، [والأول غيرُ أَجْنَبِيٍّ].
ولا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ قاعدةٍ - ها هنا - لعُمُومِ فائدتها، وهي أَنَّ الجار والمجرور والظرف إذا وَقَعا صلةً أو صِفَةً، أو حالاً، أو خبراً تَعلقا بمحذوفٍ، وذلك أن المحذوف لا يجوز ظهوره إذا كان كَوْناً مُطلقاً : فأمّا قول الشاعر :[الطويل] ٤٠
- لَكَ الْعِزُّ إِنْ مَوْلاكَ عَزَّ، وَإِنْ يَهُنْ
فَأَنْتَ لَدَى بُحْبُوحَةِ الْهُونِ كائِنُ
وأما قولُه تبارك وتَعَالى :﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ﴾ [النمل : ٤٠] فلم يقصدْ جعلِ الظَّرفِ كائناً فلذلك ذكر المتعلِّقَ به، ثم ذلك المحذوفُ يجوزُ تقديرهُ باسمٍ أَوْ فعلٍ إلاّ في الصلَةِ، فإنه يتعيّنُ أن يكونَ فِعلاً.
واختلفُوا : أَيُّ التقديرَيْنِ أَوْلَى فيما عدا الصور المستثناة ؟ فقومٌ رجّحُوا تقديرَ الفِعْلِ، [وقومٌ رجَّحُوا تقدير الاسمِ]، وقد تقدمَ دليلُ الفريقين.
وقُرِىءَ شَاذَّاً بنصب الدالِ من " الحَمْد "، وفيه وجهان : أظهرُهُما : انه منصوبٌ على المصدريَّةِ، ثم حُذِف العاملُ، ونابَ المصدرُ مَنَابه ؛ كقولِهِم في الأخبار :" حمداً، وشكراً لا كُفْراً " والتقدير :" أَحمد الله حمداً "، فهو مصدرٌ نَابَ عن جملةٍ خبريَّةٍ.
وقال الطَّبريُّ - رحمه الله تعالى - :" إنَّ في ضمنِهِ أَمْرَ عبادِه أَنْ يُثْنُوا به عليه، فكأَنَّهُ
١٧١
قال :" قولوا : الحَمْد للهِ " وعلى هذا يَجِيءُ قُولُوا : إيَّاكَ ".
فعلى هذه العبارة يكونُ من المصادِر النائبَةِ عن الطَّلبِ لا الخبرِ، وهو محتملٌ للوجْهَيْنِ، ولكنْ كونُهُ خَبَرِيَّا أَوْلَى من كونه طَلَبياً، ولا يجوزُ إظهار الناصب، لئلاَّ يجمعَ بين البدلِ والمُبْدَلِ مِنْه.
والثاني : أنه منصوبٌ على المَفْعُولِ بهِ، أَي : اجْمَعْ ضَبُعاً، والأوّلُ أَحْسَنُ ؛ للدَّلالَةِ اللفظيةِ.
وقراءَةُ الرفْعِ أمكنُ، وأَبْلَغُ مِنْ قراءَةِ النَّصب، لأنَّ الرفعَ في باب المَصَادِر التي أَصْلُها النِّيَابَةُ عَنْ أَفْعَالِها يدل على الثُّبُوتِ والاستقرَارِ، بخلافِ النَّصبِ، فإنه يدلُّ على التجددِ والحُدوثِ، ولذلك قال العلماء - رحمهم الله - : إن جوابَ إِبْرَاهيمَ - عليه الصلاة والسّلام - في قوله تَعَالَى حكايةً عنه :﴿قَالَ سَلاَمٌ﴾ [هود : ٦٩] أَحْسَنُ من قولِ الملائكة :﴿قَالُواْ سَلاَماً﴾ [هود : ٦٩] امتثالاً لقولِه تعالى :﴿فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ﴾ [النساء : ٨٦].
و " لله " على قراءةِ النصبِ يتعّقُ بمحذوفٍ لا بالمصدرِ، لأنَّها للبيانِ، تقديرهُ : أَعْنِي لله، كقولِهم :" سُقْياً له ورَعياً لك " تقديرُه :" أَعْنِي له ولك "، ويدلُّ على أنَّ اللام تتعلّقُ في هذا النوع بمحذوف لا بنفس المصدر، أنَّهم لم يُعْمِلُوا المصدر المتعدِّي في المجرور باللام، فينصبوه به فيقُولُوا : سُقْياً زيداً، ولا رَعْياً عمراً، فدلَّ على أنه ليس مَعْمولاً للمصدرِ، ولذلك غَلِطَ من جعل قولَه تَعَالَى :﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ﴾ [محمد : ٨]، مِنْ بَابِ الاشْتِغَالِ ؛ لأنَّ " لَهُمْ " لا يتعلَّقُ بـ " تَعْساً " كما مَرَّ.
ويحتملُ أَنْ يُقالُ : إن اللام في " سُقياً لك " ونحوِهِ مقويةٌ لتعدِيَةِ العامل ؛ لكونِهِ فَرْعاً فيكون عاملاً فيما بعده.
وقُرىءَ :- أَيْضاً - بِكَسْرِ الدَّال، وجهُهُ : أَنَّها حركةُ إِتباعٍ لكسرَةِ لاَمِ الجَرِّ بعده، وهي لُغَةُ " تَمِيم "، وبَعْضِ " غَطَفَان "، يُتْبِعُونَ الأوّل للثَّاني ؛ للتَّجانسِ.
ومنه :[الطويل] ٤١ -...............
اضْرِبِ السَّاقَيْنُ أُمُّكَ هَابِلُ
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٦٨
١٧٢
بضمِ نُونِ التّثنِيَةِ لأجل ضمّةِ الهَمْزَةِ، ومثلُه، [البسيط] ٤٢
- وَيْلِمِّهَا فِي هَوَاءِ الْجَوِّ طَالِبَةً


الصفحة التالية
Icon