والثاني : أنَّ الواو مزيدة في الجواب على رأي الكوفيين، والأخفش.
قال أبو حيَّان : وقرأ عبدُ الله فيما نقل عن الزمخشري ﴿وجعل السقاية في رحل أخيه﴾ : أمْهَلهُمْ حتّى انطلقوا.
﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾، وفي نقل ابنِ عطيَّة :" وَجَعلَ " بزيادة واوٍ في :" جَعَلَ " دون الزيادة التي زادها الزمخشريُّ، بعد قوله :" في رَحْل أخيهِ " فاحتمل أن تكون الواو زائدة على مذهب الكوفيِّين، واحتمل أن يكون جواب :" لمَّا " محذوفاً تقديره : فقدها حافظها كما قيل : إنَّما أوحي إلى يوسف بأن يجعل السِّقاية فقطن ثمَّ إنَّ صاحبها فقدها فنادى برأيه فيما ظهر له، ورجَّحهُ الطبريُّ، وتفتيتش الأوعية يردُّ هذا القول.
قال شهابُ الدِّين :" لم ينقل الزمخشريُّ هذه الزِّيادة كلها قراءة عن عبدالله، إنَّما جعل [الزِّيادة] المذكورة بعد قوله :" رحْلِ أخِيهِ " تقدير جواب من عنده، وهذا نصُّه : قال الزمخشريُّ :" وقرأ ابنُ مسعودٍ : وجَعَلَ السِّقاية " على حذف جواب " لمَّا " كأنه قيل : فلمَّا جهزهم بجهازهم، وجعل السِّقاية في رحل أخيه ؛ أمهلهم حتى انطلقوا، ثمَّ أذَّن مؤذِّنٌ " فهذا من الزمخشريُّ إنما هو تقدير لا تلاوة منقولة عن عبدالله، ولعلَّهُ وقع للشَّيخ نسخةٌ سقيمةٌ ".
فصل قال الزمخشريُّ :" السِّقاية : مَشْربةٌ يُسْقَى بها وهِيَ الصواع ".
قيل : كَانَ يُسْقى بها الملكُ، ثُمَّ جعلت صاعاً يكالُ به، وقيل : كانت الدَّوابُّ تسقى بها، ويُكَالُ بِهَا أيضاً، وقيل : كانت من فضَّةٍ، وقيل : كَانتْ من ذهَبٍ، وقيل : كَانتْ مُرصَّعة بالجَواهرِ.
والأولى أن يقال : كان ذلِكَ الإنَاء شيئاً لهُ قِيمَة، أمَّا إلى هذا الحدِّ الذي ذكروهُ فَلاً ؟ فصل روي أنَّ يوسف ـ صلوت الله وسلامه عليه ـ قال لأخيه : لا تُعْلِمهُمْ شيئاً ممَّا أعلمتك، ثمَّ أوفى يوسف لإخوته الكيل، وحمل لكلِّ واحدٍ بعيراً، ولبنيامين بعيرٌ باسمه، ثمَّ أمر بسقاية الملك، فجعلت في رحل بنيامين.
قال السديُّ ـ رحمه الله ـ : لما قال له يوسف :﴿إِنِّى أَنَاْ أَخُوكَ﴾ [يوسف : ٦٩] قال بنيامني : فأنا لا أفارقك، فقال له يوسف : قد علمت اغتمام والدي بي، وإذا أجلستك، ازداد غمه ولا يمكنني هذا إلاَّ بعد أن أشهرك بأمر فظيع، وأنسبك إلى ما لا يُحْمدُ، قال لا أبالي
١٥٩
فافعل ما بدا لك ؛ فإني لا أفارقك، قال : فإنِّي أدس صاعي في رحلك، ثمَّ أنادي عليك بالسِّرقةِ ليتهيأ لي ردّك بعد تسريحك، قال : فافعل.
فعند ذلك جعل السِّقاية في طعام أخيه بنيامين، إمَّا بنفسه بحيثُ لم يطِّلعْ عليه أحدٌ، أو أمر أحداً من بعض خواصه بذلك، ثمَّ ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتَّى نزلوا منزلاً.
وقيل : حتَّى خرجوا من العمارة، ثمَّ بعث خلفهم من استوقفهم، وحبسهم.
﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾ نادى منادٍ :﴿أَيَّتُهَا الْعِيرُ﴾، وهي القافلةُ التي فيها الأحمال، يقال : أذَّن، أي : أعلمَ.
وفي الفرق بين " أذَّنَ "، و " آذَنَ " وجهان : قال ابن الأنباريِّ :" أذن بمعنى أعلم إعلاماً بعد إعلام، لأنَّ " فعَّل " يوجب تكرير الفعل، قال : ويجوز أن يكون إعلاماً واحداً، من قبل أنَّ العرب يجعل فعَّل بمعنى أفعل، في كثير من المواضع ".
وقال سيبويه : الفرقُ بين أذنتُ وآذنْتُ معناه : أعلمتُ، لا فرق بينهما والتَّأذينُ معناه : النِّداءُ، والتَّصويتُ بالإعلام.
﴿أَيَّتُهَا الْعِيرُ﴾ منادى حذف منه حرف النِّداء، والعير مؤنثٌ، ولذلك أنث أي المتوصل بها إلى ندائه، والعير فيها قولان : أحدهما : أنها في الأصل جماعة الإبل، سُمِّت بذلك ؛ لأنها تعير، أي : تذهب وتجيء به.
والثاني : أنَّها في الأصل قافلة الحمير ؛ كأنها جمع عير، والعِيرُ : الحِمارُ ؛ قال الشاعر :[البسيط] ٣١٢١ـ ولاَ يُقِيمُ عَلى ضَيْمٍ يُرادُ بِهِ
إلاَّ الأذَلانِ عَيْرُ الحيِّ والوَتِدُ
جزء : ١١ رقم الصفحة : ١٥٩
وأصلُ " عُيْرٌ "، بضم العين، ثمَّ فعل به ما فعل بـ " بيض "، والأصل [بُيض] بضم الأول، ثم أطلق العير على كلِّ قافلة حميرٍ كُنَّ أو غيرها، وعلى كلِّ فتقدير نسبة النداء إليها على سبيل المجاز ؛ لأنَّ المنادى في الحقيقة أهلها، ونظره الزمخشريُّ بقوله :" يَاخَيْل اللهِ ارْكبِي " ولو التفت لقال : اركَبُوا ".
ويجوز أن يعبر عن أهلها بها للمجاورة، فلا يكون من مجاز الحذف، بل من مجاز العلاقة، وتجمعه العرب قاطبةٌ على " عيرات " بفتح الياءِ، وهذا ممَّا اتُّفق على شذوذِهِ ؛ لأن فعلة المعتلة العين حقها في جمعها بالألف
١٦٠
والتاء أن تسكن عينها، نحو : قِيمَة وقِيمَات، ودِيمَة ودِيمَات، وكذلك " فِعْل " دون ياء إذا جمع حقه أن تسكن عينه ؛ قال امرؤ القيس :[الطويل] ٣١٢٢ـ غَشِيتُ دِيَارَ الحيِّ بالبَكرَاتِ
فعَارِمَةٍ فبُرْقَةِ العِيَراتِ