وفقد بحذفه، فيقالُ : حرف العلَّة يحذف عند الجازمِ لا به.
ومذهب ابنِ السَّراجك أنَّ الجازم أثَّر في نفس الحرف فحذفه، وفيه البحثُ المتقدم.
والثاني : أنَّه مرفوعٌ غير مجزومٍ و " مَنْ " موصولةٌ، والفعل صلتها ؛ فلذلك لم يحذف لامه.
واعترض على هذا بأنَّهُ قد عطف عليه مجزوم وهو قوله :" ويَصْبِرْ " فإنَّ قُنْبُلاً لم يقرأ إلا بإسكان الرَّاء.
وأجيب عن ذلك : بأنَّ التَّسكين لتوالي الحركات، وإن كان من كلمتين كقراءة أبي عمرو ﴿يَنصُرْكُمُ﴾ [آل عمران : ١٦٠]، و ﴿يَأْمُرَكُمْ﴾ [آل عمران : ٨٠]، وأجيب أيضاً : بأنه جزم علكى التوهم يعني لما كانت " مَنْ " الموصولة تشبه " مَنْ " الشرطية، وهذه العبارة فيها غلظ على القرآن، فينبغي أن يقال فيها مراعاة للشَّبهة اللَّفظي، ولا يقال للتَّوهُّم.
وأجيب أيضاً : بأنه سكن للوقف ثم أجرى الوصل مُجْرَى الوقف.
وأجيب أيضاً : بأنه إنما جزم حملاً لـ " مَنْ " الموصولة على " مَنْ " الشَّرطيَّة ؛ لأنَّها مثلها ف يالمعنى، ولذلك دخلت [الفاء] في خبرها.
قال شهابُ الدِّين : وقد يقالُ على هذا : يجوز أن تكون " مَنْ " شرطيَّة، وإنَّما ثبتت الياء، ولم تجزم " من " لشبهها بـ " مَنْ " الموصولة ثمَّ لم يعتبر هذا الشبه في قوله :" ويَصْبِرْ "، فلذلك جزمه، إلاَّ أنه يبعد من جهة أنَّ العامل لم يؤثر فيما بعده، ويليه، ويؤثر فيما هو بعيد منه، وقد تقدَّم الكلام على مثل هذه المسألة أوَّل السُّورة في قوله :﴿يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ﴾ [يوسف : ١٢].
وقوله :﴿فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ﴾ الرَّابطُ بين جملة الشَّرط، وبين جوابها : إمَّا العموم في " المُحْسِنيِنَ "، وإمَّا الضمير المحذوف، أي : المحسنين منهم، وإمَّا لقيام :" ألْ " مقامه، والأصل : محسنيهم، فقامت " ألْ " مقام ذلك الضَّمير.

فصل معنى الآية : من يتَّق معاصي الله، ويصبر على أذى النَّاسِ.


وقيل : من يتَّق بأداء الفرائض، واجتناب المعاصي ويصبر على ما حرم الله عليه.
وقال ابنُ عبَّاسٍ ـ رضي الله عنه ـ : يتّقي في الزِّنا، ويصبر على العُزوبةِ، وقال مجاهدٌ : يتقي المعصية، ويصبر على السجن.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ قال ابن الخطيب :" واعلم أنَّ يوسف ـ عليه السلام ـ وصف نفسه في هذا المقام الشَّريف بكونه متقِياً، و لو أنه أقدم على المعصية كما
٢٠٣
قالوه في حق زليخا، لكان هذا القول كذباً منه، وذكر الكذب في مثل هذا المقام الذي يؤمن فيه الكافر، ويتوب فيه العاصي لا يليق بالعقلاء ".
قوله :﴿تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا﴾ أي تفضَّل عليك، والإيثارُ : التفضيل بأنواع جميع العطايا، آثرهُ يُؤثِرهُ إيثَاراً، وأصله من الأثر، وهو تتبع الشيء، فكأنه يَسْتقْصٍي جميع أنواع المَكارمِ، وفي الحديث :" سَتكُون بعدي أثرةٌ " أي : يستأثر بعضكم على بعض، ويقال : اسْتأثَر بكذا، أي : اختص به، واستأثر اللهُ بفلان، كناية عن اصطفائه له.
وقال الشاعر :[الرجز] ٣١٤٩ـ واللهُ اسْماكَ سُماً مُبَاركَا
آثَركَ الله بِهِ إيثَاركَا
جزء : ١١ رقم الصفحة : ١٩٧
قال الأصمعيُّ : يقالُ : آثَرَكَ الله إيثاراً، أي : فضَّلك، والمعنى : لقد فضلك الله علينا بالعلمِ، والعملِِ، والحسنِ، والملكِ.
فصل احتجَّ بعضهم بهذه الآية على أنَّ إخوة يوسف ما كانوا أنبياء ؛ لأنَّ جميع المناصب المغايرة لمنصب النبوة كالعدم بالنِّسبة لمنصب النُّبوة لما قالوا :﴿تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا﴾، وعلى هذا يذهب سؤال من يقول : آثره عليهم بالملك، وإن شاركوه في النبوة ؛ لأنَّا بيَّنا أنَّ سائر المناصب لا تعتبر في جنب منصب النُّبوًَّة.
ثم قالوا :﴿وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾ والخَاطِىءُ : هو الذي أتى بالخطيئة عمداً وهذا هو الفرقُ بين الخَاطىءِ، ولهذا يقالُ للمُجْتهدِ الذي لمْ يُصِبْ أنَّهُ مخطىءٌ، ولا يقال : إنه خاطىءٌ.

فصل أكثر المفسرين على أن الذي اعتذروا منه هو إقدامهم على إلقائه في الجُبِّ وبيعه وتبعيده عن أبيه.


وقال أبو عليّ الجبائيٌّ : لم يعتذروا من ذلك ؛ لأنَّ ذلك كان منهم قبل البلوغ، فلا يكون ذنباً، فلا يعتذر منه، وإنَّما اعتذروا من حيثُ إنهم أخطئوا بعد ذلك بأن لم يظهروا لأبيهم ما فعلوه ليعلم أنَّه حي، وأنَّ الذِّئب لم يأكله.
وأجاب ابنُ الخطيب عن ذلك :" بأنَّه لا يجوز أن يقال : إنهم أقدموا على ذلك الفعل في زمن الصِّبا ؛ لأنه من البعيد في [مثل] يعقوب جمعاً غير بالغين من
٢٠٤


الصفحة التالية
Icon