وروي أنَّ أبا سفيان لما جاء ليًسلم، قال لهُ العبَّاس ـ رضي الله عنه ـ :" إذا أتيت رسُول الله ﷺ فاتْلُ عليه :﴿قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ﴾ ففعل، فقال رسول الله ﷺ غفر الله لَكَ ولمن علَّمك ".
وروي : أنَّ أخوة يوسف لما عرفوه أرسلوا إليه : إنَّا نستحي منك لما صدر منَّا من الإساءة إليك، فقال يوسف : إنَّ أهل مصر لو ملكت فيهم، فإنهم ينظرون إليَّ بالعين الإولى، ويقولون : سبحان الذي بلغ عبداً بِيعَ بِعشرينَ درهماً ما بلغ، ولقد شَرُفتُ بإتيانكم، وعظُمتُ في العيون لما جئتم، علم النَّاس أنكم إخوتي، وأنِّي من حفدةِ إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ثم سألهم عن أبيه، فقال : ما فعل أبي من بعدي قالوا : ذهبت عيناه ؛ فأعطاهم قميصه وقال :﴿اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً﴾ أي يعيده مبصراً، وقيل : يأتيني بصيراً.
قال الحسنُ رضي الله عنه : لم يعلم أنه يعود بصيراً إلا بالوحي ؛ لأنَّ العقل لا يدلُّ عليه وقال الضحاك : كان ذلك القميص من نسيج الجنَّة.
وعن مجاهدٍ : أمره جبريل ـ صلوات الله عليه ـ أن يرسل قميصه، وكان ذلك القميص قميص إبراهيم ـ عليه الصلام ـ وذلك أنه جُرِّد من يثابه، وألقي في النَّار عرياناً، فآتاه جبريل بمقيص من حرير الجنَّة، فألبسه إياه، فكان ذلك عند إبراهيم فلما مات إبراهيم عليه السلام ورِثهُ إسحاق، فلما مات إسحاق ورثهُ يعقوب، فلمَّا شبَّ يوسف ـ عليه السلام ـ جعل ذلك يعقوب في قصبةٍ من فضة وسد رأسها، وعلقها في عنقه لما كان يخافُ عليه من العين كانت لا تفارقه، فلمَّا ألقى في الجُبِّ عُرياناً جاءهُ جبريلُ ـ عليه السلام ـ وعلى يوسف ذلك التَّعويذُ ؛ فأخرج القميص منه، وألبسه، ففي ذلك الوقت جاءهُ جبريل، وقال : أرسل ذلك القميص فإنَّ فيه ريحَ الجنَّة لا يقع على مبتلى، ولا سقيم إلا عُوفِي، فدفع يوسف ذلك القميص إلى إخوته، وقال :﴿فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً﴾ أي : مبصرا وإنَّما أفرد بالذِّكر تعظيماً له، وقال في الباقين :﴿وائتوني بأهلكم أجمعين﴾.
قال ابن الخطيب :" ويمكن أن يقال : لعلَّ يوسف علم أنَّ أباهُ ما صدر أعمى إلاَّ من كثرة البكاءِ، وضيق القلبت، وذلك يضعفُ البصر، وإذا ألقي عليه قميصه، فلا بد وأن ينشرح صدره، وأن يحصل في قلبه الفرحُ الشديد، وذلك يقوِّي الرُّوحَ، ويزيلُ الضَّعف عن القوى فحينئذ يقوى بصره، ويزول عنه ذلك، فهذا القدرُ ممَّا يُمِكنُ معرفته بالقلبِ فإنَّ القوانين الطبيَّة تدلُّ على صحَّة هذا المعنى ".
قوله :" بِقَمِيصِي " يجوز أن يتعلَّق بما قبله على أنَّ الباء معدِّية كهي في " ذَهَبتُ بهِ " وأن
٢٠٧
تكون للحال فتتعلق بمحذوف، أي : اذهبوا معكم بقميصي، و " هَذَا " نعتٌ له، أو بدلٌ، أو بيانٌ، و " بَصِيراً " حالٌ، و " أجْمَعِينَ " توكيد له، وقد أكد بِهَا دُون كل، ويجوز أن تكون حالاً.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ١٩٧
قوله :﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ﴾ يقال : فَصَل فلانٌ عن فلانٍ فُصُولاً إذا خرج من عنده، و " فَصَلَ " كذا إذا أنفذ، و " فَصَلَ " يكون لازماً، ومتعديًّا، فإن كان لازماً فمصدره فصولاً، وإن كان متعدياً فمصدره فصلاً.
قال المفسرونك لما توجَّه العير من مصر إلى كنعان، قال يعقوب لمن كان عنده من ولد ولده :﴿إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾ قال مجاهدٌ : أصاب يعقوب ريحُ القميص من مسيرة ثلاثة أيامٍ.
وعن ابن عبَّاسٍ ـ رضي الله عنه ـ من مسيرة ثماني ليال.
وقال الحسنُ : كان بنيهما ثمانون فرسخاً، وقال مجاهد : هبَّ ريح يوسف فصفق القميص ؛ ففاحت روائح الجنَّة في الدُّنيا، واتَّصلت بيعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ فعلم أنَّه ليس في الدنيا من ريح الجنَّة إلاَّ ما كان من ذلك القميص فمن ثمَّ قال :﴿إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾ وروي أنَّ ريح الصِّبا استأذنت ربَّها أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشيرُ.
واعلم أنَّ وصول تلك الرائحة إلى يعقوب من هذه المسافة البعيدة أمر مناقض للعادة فكان ذلك معجزة، ولكن لمن منهما ؟ والأقرب أنَّها ليعقوب حيثُ أخبروه عنه، ونسبوه إلى ما لا ينبغي ؛ فظهر الأمر كما قال ؛ فكانت معجزة لهُ.
قال أهل المعاني : إنَّ الله ـ تعالى ـ أوصل ريح يوسف عند انقضاء مدَّة المحنة ومجيء وقت الروح والفرج من المكانِ البعيدِ، ومنع من وصولِ خبره إليه مع قرب إحدى البلدين من الأخرى في مدَّة ثمانين سنة، وذلك يدلُّ على أنَّ كلَّ سهلٍ فهو في زمنِ المحنةِ صعبٌ، وكلَّ صعبٍ في زمنِ الإقبال سهلٌ، ومعنى :﴿إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾ : أشم، وعبَّر عنه بالوجود ؛ لأنه وجدان له بحاسة الشَّمِّ.
٢٠٨
قوله :﴿لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ﴾ التَّفنيدُ : الإفسادُ، يقال : فنَّدت فلاناً، أي : أفدستُ رأيه ورددته.
قال الشاعر :[البسيط] ٣١٥٠ب ـ يَا صَاحبيَّ دَعَا لَوْمِي وتَفْنِيدِي
فَليْسَ مَا فَاتَ مِنْ بِمَرْدُودِ


الصفحة التالية
Icon