الأمر كما قلتم، لكان من الجواب أن يسجد يوسف ليعقوب عليه الصلاة والسلام.
السادس : لعلَّ إخوته حملتهم الأنفة، والاستعلاءُ على ألاّ يسجدو له على سبيل التَّواضع، وعلم يعقوب أنهم إن لم يفعلوا ذلك لصار ذلك سبباً لثوران النَّفس، وظهور الأحقاد القديمة بعد كُمونِها، فيعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع جلالته وعظم قدره ـ بسبب الأوبة والشَّيخوخة، والتَّقدُّم في الدِّين، والعلم، والنبوة فعل ذلك السُّجود حتَّى تصير مشاهدتهم لذلك سبباً لزوال تلك الأنفة، والنفرة عن قلوبهم.
السابع : لعلَّ الله ـ تعالى ـ أمر يعقوب بتلك السَّجدة لحكمة خفية لا يعلمها إلا هو [كما أمر الملائكة بالسجود لآدم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لحكمة لا يعلمها إلا هو]، ويوسف ما كان راضياً بذلك في قلبه إلا أنَّه لما علم أنَّ الله أمره بذلك سكت.
ثم إنَّ يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما رأى هذه الحالة :﴿وَقَالَ يا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً﴾، وهي قوله :﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً﴾ [يوسف : ٤] وهاذ يقوّي الجواب السَّابع.
والمعنى : أنَّه لا يليق بمثلك على حالتك، في العلم، والدين، والنبوة أن تسجد لولدك إلا أنَّ هذا أمر أمرت به، وأن رؤيا الأنبياء حقٌّ، كما أنَّ رؤيا إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذبح ولده كان سبباً لوجوب ذلك الذبح عليه في اليقظةِ، لذلك صارت هذه الرُّؤيا التي رآها يوسف سبباً لوجوب السُّجودِ على يعقوب.
قوله :﴿مِن قَبْلُ﴾ يجوز أن يتعلق ـ بـ " رُؤيَايَ " أي تأويل رؤياي في ذلك الوقت ويجوز أن يكون العامل فيه :" تأوِيلُ " ؛ لأن التَّأويل كان من حين وقوعها هكذا والآن ظهر له، ويجوز أن يكون حالاً من :" رُؤيَايَ " قاله أبو البقاء.
وقد تقدَّم أنَّ المقطوع عن الإضافة لا يقع حالاً.
قوله :﴿قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً﴾ حال من :" رُؤيَايَ "، ويجوز أن تكون مستأنفة وفي " حَقًّا " وجوه : أحدها : أنه حال.
والثاني : أنه مفعول ثانٍ.
والثالث : أنه مصدر مؤكد لفعل من حيث المعنى، أي : حقَّقها ربي حقاً بجعله.
قوله :" أحْسنَ بِي " " أحْسنَ " أصله أن يتعدَّى بإلى، قال تعالى :﴿وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [القصص : ٧٧] فقيل : ضمن معنى :" لَطفَ " متعدّياً بالباءِ، كقوله تعالى :﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ وقول كثير عزَّة :[الطويل]
٢١٥
٣١٥٥ـ أسِيئِي بِنَا، أو أحْسِنِي لا مَلُومةً
لَديْنَا ولا مَقْليَّةً إنْ تَقلَّتِ
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٢١٢
وقيل : بل يتعدى بها أيضاً، وقيل : هي بمعنى " إلى " وقيل : المفعول محذوف.
تقديره : أحسن صنعه بِى، فـ :" بي " متعلقة بذلك المحذوف، وهو تقدير أبي البقاءِ.
وفيه نظرٌ ؛ من حيث حذف المصدر، وإبقاء معموله، وهو ممنوع عند البصريين.
و " إذْ " منصوب بـ " أحْسَنَ "، أو المصدر المحذوف، قاله أبو البقاء وفيه النظر المتقدِّمُ.
والبَدْوُ : ضد الحضارة، وهو من الظُّهورِ، بَدَا يَبْدُوا : إذ سكن البادية.
يروى عن عمر رضي الله عنه :" إذَا بَدوْنَا جَفوْنَا " أي : تخلقنا بأخلاق البدويين.
قال الواحديُّ : البدو بسيطٌ من الأرض يظهرُ فيه الشخص من بعيدٍ، ، أصله من بَدَا يَبْدُوا بَدْواً، ثم سمي المكان باسم المصدر، ويقال :: بَدْوٌ وحَضَرن وكان يعقوب وولده بأرض كعنان أهل مواشٍ وبريَّةٍ.
وقال ابن عبَّاس ـ رضي الله عنه ـ :[كان يعقوب قد تحوَّل إلى بدا وسكنها] ومنها قدم على يوسف، وبها مسجد تحت جبلها.
قال ابن الأنباري " بدا " اسم موضع معروف، ياقل : بين شعيب ـ عليه السلام ـ وبدا، وهما موضعان ذكرهما جميعاً كثيرٌ :[الطويل] ٣١٥٦ـ وأنْتِ الَّتِي حَبَّبْتِ شَعْباً إلى بَدَا
إليَّ وأوْطَانِي بِلادٌ سِواهُمَا
والبدو على هذا القول معناه : قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا، يقال : بَدَا القَوْمُ بدواً إذا أتوا بَدَا، كما يقال : غَارَ القوم غَوْراً، إذا أتوا الغُوْر، وكان معنى الآية : وجاء بكم من قصد بدا، وعلى هذا القول كان يعقوب، وولده حضريِّين، لأن البدو لم يرد به البادية لكن عني به قصد بدا.
فصل اعلم أن قوله ﴿يا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً﴾ وهو قوله :﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً﴾ [يوسف : ٤]، ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بَى ﴾ أنعم عليَّ ﴿إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾ ولم يقل من الجُبّ مع كونه أشدّ من السجن استعمالاً للكرم كيلا تخجل إخوته بعدما قال :{لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ
٢١٦