عنها ـ قالت :" مَعاذَ اللهِ ؛ لمْ تَكُنِ الرسُل لتظُنَّ ذلِكَ بِربِّهَا " وينبغي ألاَّ يصحَّ لك عنها ؛ لتواتر هذه القراءة، وقد وجَّهت بأربعة [أوجه] : أحدها : أن الضمير في " وظَنُّوا " عائدٌ على المرسل إليهم ؛ لتقدُّمهم في قوله :﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ ولأنَّ الرسل تستدعي مرسلاً إليهم، والضمير في " أنَّهُمْ " و " كُُذِبُوا " عائد على الرسل والمعنى : وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا، أي : كذَّبهم من أرسلوا غليه بالوحي، وينصرهم عليهم.
الثاني : أن الضمائر الثلاثة عائدة على الرسل.
قال الزمخشري في تقديره هذا الوجه :" حتَّى إذا اسْتَيئَسُوا من النَّصر، وظنوا أنهم قد كذبوا، أي كذَّبتهم أنفسهم حين حدَّثتهم أنهم ينصرون، أو رجاؤهم ؛ لقولهم : رَجاءٌ صادقٌ، ورجاءٌ كاذبٌ، والمعنى : أن مدَّة التَّكذيب والعداوة من الكفَّار، وانتظار، وتوهَّموا أن لا نصر لهم في الدنيا ؛ فجاءهم نصرنا " انتهى.
فقد جعل الفاعل المقدر : إما " أنْفُسُهم "، وإما " رَجَاؤهم "، وجعل الظَّنَّ بمعنى : التَّوهُّم، فأخرجه عن معناه الأصليِّ، وهو يرجِّحُ أحد الطرشفين، وعن مجازه، وهو استعماله في المتيقين.
الثالث : أن الضمائر كلَّها عائدة على الرسل، والظنُّ على بابه من التَّرجيح، وإلى هذا نحا ابنُ عبَّاسٍ، وابن مسعود، وابن جبير، وقالوا : والرُّسُل بشر ؛ فضعفوا، وساء ظنُّهُم.
وهذا لا ينبغي أن يصحَّ عن هؤلاء : فإنها عبارة غليظة على الأنبياء، وحاشا الأنبياء من ذلك، ولذلك ردَّت عائشة، وجماعة كثيرة هذا التأويل، وأعظموا أن ينسبوا الأنبياء إلى شيء من ذلك.
قال الزمخشريُّ :" إن صحَّ هذه عن ابن عبَّاس، فقد أراد بالظَّنِّ ؛ ما يخطر بالبالِ، ويهجُس في القلب من شبه الوسوسة، وحديث النَّفس على ما عليه البشريِّة، وأما الظَّنُ الذي هو ترجيح أحد الجائزين عل الآخر ؛ فغير جائزٍ على رجلٍ من المسلمين، فما بالُ رُسل الله الذين هم أعرف بربِّهم ".
قال شهاب الدِّين :" ولا يجوز أيضاً أن يقال : خطر ببالهم شبه الوسوسة، فإن الوسوسة من الشيطان، وهم معصومون منه ".
وقال الفارسي أيضاً :" إن ذهب ذاهبٌ إلى أن المعنى : ظن الرُّسل الذين وعد الله
٢٢٧
أممهم على لسانهم قد كذبوا ؛ فقد أتى عظيماً لا يجوز أن ينسب مثله إلى الأنبياء، ولا إلى صالح عباد الله، وكذلك من زعمك أنَّ ابن عبَّاس ذهب إلى أن الرسل قد ضعفوا، [فظنوا] أنهم قد أخلفوا ؛ لأن الله لا يخلف الميعاد، ولا مبدِّل لكلماته ".
وقد روي عن ابن عباس أيضاً، أنه قال : معناه : وظنوا حين ضعفوا وغلبوا ؛ أنهم قد أخفلوا ما وعدهم الله به من النصر، وقال : وكانوا بشراًح وتلا قوله تعالى :﴿وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ﴾ [البقرة : ٢١٤].
الرابع : أن الضمائر كلَّها ترجع إلى المرسل إليهم أي : وظنَّ المرسل إليهم أنَّ الرسل قد كذبوهم فيما ادَّعوه من النبوة، وفيما يوعدون به من لم يؤمن بهم من العقاب قبل، وهذا هو المشهور من تأويل ابن عباس، وابن مسعود، وابن جبير، ومجاهد، قالوا :" و لايجوز عود الضمائر على الرسل ؛ لأنَّهم معصومون ".
ويحكى : أنَّ ابن جبير حين سئل عنها، فقال : نعم، حتَّى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدِّقوهم، وظنَّ المرسل إليهم أن الرُّسل قد كذبوهم ؛ فقال الضحاك بن مزاحم ـ وكان حاضراً ـ :" لَوْ رحَلْتُ فِي هَذه إلى اليَمنِ كَانَ قَلِيلاً ".
وأمَّا قراءة التشديد فواضحة، وهو أن تعود الضمائر كلها على الرسل، أي : وظنَّ الرُّسل أنهم قد كذبهم أممهم فيما جاءوا به ؛ لطول البلاءِ عليهم.
وفي صحيح البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنَّها قالت :" إنَّهُم أتْبَاعُ الأنْبيَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا بِربهم وصدَّقُوا، طَالَ عَليهِمُ البَلاءُ واسْتأخَرَ عَنْهُم النَّصْر، حتَّى إذَا اسْتَيْأسَ الرُّسلُ ممَّن كذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وظنَّتِ الرُّسلُ أنَّهُمْ قَد كذَّبُوهُم، جَاءَهُمْ نَصْرُ اللهِ عِندَ ذلِكَ ".
وبهذا يتَّحد معنى القراءتين، والظَّن هنا يجوز أن يكون على بابه، وأن يكن بمعنى : اليقين، وأن يكن بمعنى : التوهُّم كما تقدَّم.
وقرأ ابن عبَّاس، ومجاهد، والضحاك ـ رضي الله عنهم ـ :" كَذبُوا " بالتخفيف مبنيًّا للفاعل، والضمير على هذه القراءة في " وظنُّوا " عائدٌ على الأمم، في أنَّهُم قد كذبوا، عائد على الرسل، أي : ظنَّ المرسلُ إليهم أنَّ الرسل قد كذبوهم فيما وعدوهم به من النَّصر، أو من العقاب.
ويجوز أن يعود الضمير في " ظَنُّوا " على الرسل، وفي " أنَّهُمْ قَدْ كذِبُوا " على المرسل إليهم، أي : وظنَّ الرسل إنَّ الأمم كذبتهم فميا وعدهم به من أنَّهم لا يؤمنون به، والظنُّ هنا بمعنى : اليقين واضح.
٢٢٨


الصفحة التالية
Icon