وليس في البيت حملٌ على اللفظ والمعنى، وإنَّما فيه حملٌ على المعنى فقط، وهو مقصوده.
وقوله :" وإلا فقد تناتول واحدٌ هو مستخق وسارب " لو قال بهذا قائل لأصاب الصَّواب وهو مذهب ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ومجاهد ذهبا إلى أن المستخفي والسَّاب شخص واحد يستخفي بالليل، ويسرب بالنَّهار، ليري تصرفه في النَّاس.
الثالث : أن يكون على حذف " مَنْ " الموصولة، أي : ومن هو سارب، وهذا إنَّما يتمشى عند الكوفيين، فإنهم يجيزون حذف الموصول، وقد استدلالهم على ذلك.
والسَّاربُ : اسم فاعل من " سَرَبَ، يَسْرُبُ "، أي : تصرف كيف يشاء ؛ قال :[الكامل] ٣١٦٨ـ أنَّى سَربْتِ وكُنْتِ غَيرَ سَرُوبِ
وتُقرَّبُ الأحلامُ غَيْرَ قَريبِ
وقال آخر :[الطويل] ٣١٦٩ـ وكُلُّ أنَاسٍ قَاربُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ
ونَحْنُ خَلعْنَا قَيْدُهُ فهو سَارِبُ
أي : متصرف كيف توجَّه، ولا يدفعه أحدٌ عن مرعى قومه بالمنعة، والقوة.

فصل معنى الكلام : أي : يستوي في علم الله المسر في القول، والجاهر به.


وفي المستخفي، والسَّارب وجهان : الأول : يقال : أخفيت الشيء أخفيه فخفي، واستخفى فلان من فلان، أي : توارى واستتر منه.
٢٦٤
والسَّارب : قال الفراء والزجاج : أي : ظاهر بالنهار في سربه، أي : طريقه يقال : خلا له سربه، أي : طريقه، والسَّرب ـ بفتح السِّين، وسكون الراء ـ الطريق.
وقال الأزهري :" تقول العرب : سَربتِ الإبلُ تسرب سَرَباً، أي : مضت في الأرض ظاهرة حيث شاءت ".
فمعنى الآية : سواء كان الإنسان مستخفياً في الظُّلماتِ، وكان ظاهراً في الطرقاتِ فعلم الله تعالى محيطٌ بالكلِّ.
قال ابن عباس :" سواء ما أضمرته القلوب، أو أظهرته الألسنة ".
وقال مجاهد : سواء من أقدم على القبائح في ظلمات الليل، ومن أتى بها في النهار الظاهر على سبيل التَّوالي.
وقال ابن عباس أيضاً :" هو صاحب ريبة مستخسف بالليل، وإذا خرج النهار أرى النَّاس أنه بريء من الإثم ".
والقول الثاني : نقل الواحدي عن الأخفش، وقطرب قال : المستخفي : الظاهر والسارب : المتواري، ومنه يقال : خفيت الشيء، أي : أظهرته، وأخفيت الشيء أي : استخرجته، ويسمى النَّبَّاش : المستخفي، والسَّارب : المتواري، أي : الداخل سرباً، وانسرب الوحش : إذا دخل في السِّرب، أي : في كناسه.
قال الواحديُّ :" وهذا الوجه صحيح في اللغة إلا أنَّ الأول هو المختارُ لإطباق أكثر المفسرين عليه، وأيضاً : فالليل يدلُّ على الاستتار، والنهار على الظهور ".
قوله :﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ﴾ الضمير فيه أربعة أوجه : أحدها : أنه عائد على " مِنْ " المكررة، أي : لمن أسرّ القول، ولمن جهر به ولمن استخفى :" مُعَقباتٌ "، أي : جماعة من الملائكة يعقب بعضهم بعضاً.
الثاني : أنه يعود على " مِنْ " الأخيرة، وهو قول ابن عبَّاسٍ.
قال ابن عطية : والمعقبات على هذا : حرسُ الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه، قالوا : والآية على هذا في الرؤساء الكفار، واختاره الطبريُّ وآخرون إلاَّ أنَّ المارودي ذكر على هذا التأويل : أنَّ الكلام نفي، والتقدير : لا يحفظونه، وهذا ينبغي ألاّ يمسع ألبتة، كيف يبرز كلام موجب، ويراد به نفي، وحذف " لا " إنما يجوز إذا كان المنفي مضارعاً
٢٦٥


الصفحة التالية
Icon