فالذي قاله المفسِّرون بهذه العبارة، هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء، فيكيف يليق بالعاقل الإنكار ؟ ".
قوله :﴿وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ﴾ كما أصاب أربد بن ربيعة.
" الصَّواعِقَ " جمع صاعقة، وهي العذاب المهلك ينزل من البرقِ، فتحرق من تصيبه وتقدَّم الكلام عليه في أوَّل البقرةِ.
قال المفسرون : نزلت هذه الآية في عامر الطُّفيل، وأربد بن ربيعة أخي أسد بن ربيعة كما قدمنا.
واعلم أنَّ أمر الصاعقة عجيبٌ جدًّا ؛ لأنَّها نارٌ تتولَّد في السَّحاب، وإذا نزلت من السَّحاب فربما غاصت في البحرِ، وأحرقت الحيتان.
قال محمدُ بن عليّ الباقر :" الصَّاعقة تصيبُ المسلم، وغير المسلمِ، ولا تصيب الَّذاكر ".
قوله :﴿وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ﴾ يجوز أن تكون الجملة مستأنفة أخبر عنهم بذلك ويجوز أن تكون حالاً.
وظاهر كالام الزمخشري أنَّها حال من مفعول " تَصِيبُ " فإنَّه قال :" وقيل : الواو للحال، أي : يصيب بها من يشاء في حال جدالهم " وجعلها غيره : حالاً من مفعول " يَشَاء ".
فصل معنى الكلام : أنه ـ تعالى ـ بيَّن دلائل العلم بقوله :﴿يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى ﴾ [الرعد : ٨]، ودلائل كمال القدرة في هذه الآية، ثم قال تعالى :﴿وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ﴾ يعنى أنَّ الكفار مع ظهور هذه الدلائل يجادلون في الله.
قيل : المراد بها الرَّد على الكافر يعني أربد بن ربيعة الذي قال : أخبرنا عن ربِّنا، أهو من نحاسٍ، أم من حديد، أم من درٍّ، أم من ياقوت، أم من ذهب ؟ فنزلت الصاعقة من السماء ؛ فأحرقته.
وقيل : المراد جدالهم في إنكار البعث، وقيل المراد الرد على جدالهم في طلب سائر المعجزات.
وقيل : المراد الرد عليهم في استنزال عذاب الاستئصال.
وسئل الحسن عن قوله :﴿وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ﴾ الآية قال : كان رجلٌ من طواغيت العرب بعث إليه النبي ﷺ يقرّ بدعوته إلى الله ورسوله، فقال لهم : أخبروني عن رب محمدٍ، هذا الذي تدعُوني إليه، مِمَّ هو " من ذهبٍ، أو فضةٍ، أو حديدٍ أو نحاس ؟
٢٧٦
فاستعظم القوم مقالته، فانصرفوا إلى النبيِّ ﷺ فقالوا : يا رسول الله : ما رأينا رجُلاً أ : فر قلبا، ولا أعتى على الله منه، فقال :ﷺ :" ارجعوا إليه " فرجعوا إليه ؛ فجعل لايزيدهم على مثل مقالته الأولى، وقال : أجيب محمداً إلى رب لا أراه، ولا أعرفه! وانصرفوا، وقالوا : يا رسول الله : ما زادنا على مقالته الأولى، وأخبث.
فقال ﷺ :" ارجعوا إليه "، فرجعوا إليه، فبينما هم عنده ينازعونه ويدعونه، وهو يقول هذه المقالة، إذا ارتفعت سحابة، فكانت فوق رءوسهم، فرعدت، وبرقت ورمت بصاعقة ؛ فأحرقت الكافر، وهم جلوسٌ، فجاءوا يسعون ؛ ليخبروا رسول الله صلى الله عليه سلم ؛ فاستقبلهم قومٌ من أصحاب رسول الله صلى لله عليه وسلم فقالوا :" احْترَقَ صَاحبُكُم " فقالوا : من أين علمتم ؟ فقالوا : أوحى الله إلى النبي ﷺ ﴿وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾.
قوله :﴿وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾ هذه الجملة حال من الجلالة الكريمة، ويضعف استنأفها.
وقأ العام : بكسر الميم وهو القوَّة والإهلاكُ.
قال عبدالمطلب :[الكامل] ٣١٧٢ـ لا يَغْلبَنَّ صَلِبُهُمْ
ومِحَالُهُمْ عَدواً مِحَالَك
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٢٧٢
وقل الأعشى :[الخفيف] ٣١٧٣ـ فَرْغُ نَبْغٍ يَهتزٌ في غُصُنِ المَجْدِ
عَظيمُ النَّدى شديدُ المحالِ
والمحال أيضاً : أشدُّ المكايدة، والممكارة، يقال : ما حله، ومنه تمحَّل فلان بكذا أي : تكلَّف له استعمال الحيلة.
وقال أبو زيدٍ : هو النِّقمةُ.
وقال ابن عرفة : هو الجدالُ، وفيه على هذا مقابلة معنوية كأنه قيل : وهم يجادلون في الله، وهو شديد المحالِ.
وقال عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ : شديد الأخذ.
وقال ابن عباسٍ ـ رضي الله عنه ـ شديد المحال.
وقال الحسن : نشديد الحقدِ.
قالوا : وهذا لايصح للحقد ؛ لأن الحقد لا يمكن في حق الله ـ تعالى ـ إلاَّ أنَّه تقدم أنَّ أمثال هذه الكلمات إذا وردت في حقِّ الله ـ تعالى ـ فإنَّها تحمل على نهايات
٢٧٧


الصفحة التالية
Icon