قوله :﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ﴾ مبتدأ، والجملة من قوله ﴿أُوْلَـائِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾ خبره، والكلام في " اللعنة " تقدم في " عُقْبَى الدَّارِ.
ولما ذكر صفة السعداء وما يترتب عليها من الأحوال الشريفة، ذكر صفة الأشقياء وما يترتب عليها من الأحوال المخزية، وابتع الوعد بالوعيد فقال عز وجل ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ وقد تقدم أن عهد الله ما ألزم عباده مما يجب الوفاء به وهذا في الكفار، والمراد من نقض العهد : ألا ينظر في الأدلة وحينئذ لا يكون العمل بموجبها أو ينظر ويعلم صحتها ثم يعاند فلا يعمل بعمله أو ينظر في الشبهة فيعتقد خلاف الحق، والمراد من قوله :" مِن بَعْدِ ميثاقهِ " أن وثق الله تلك الأدلة وأحكامها.
فإن قيل : العهد لا يكون إلا مع الميثاق، فما فائدة اشتراطه بقوله :﴿مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ ؟.
فالجواب : لا يمتنع أن يكون المراد بالعهد هو ما كلف العبد به والمراد بالميثاق الأدلة ؛ لأنه ـ تعالى ـ قد يؤكد [العهد] بدلائل أخر سواء كانت تلك المؤكدات دلائل عقلية أو سمعية.
ثم قال ﴿وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾ فيدخل فيه قطع كل ما أوجب الله وصله مثل : أن يؤمنوا ببعض الأنبياء ويكفرون ببعض، ويقطعون وصل الرسول بالموالاة والمعاونة، ووصل المؤمنين ووصل الأرحام وسائر ما تقدم.
ثم قال :﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ﴾ إما بالدعاء إلى غير دين اكلله وإما بالظلم كما في النفوس والأموال وتخريب البلاد ثم قال :﴿أُوْلَـائِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾ وهي الإبعاد من خيري الدنيا والآخرة ﴿وَلَهُمْ سُواءُ الدَّارِ﴾ وهي جنهم.
قوله ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ﴾ الآية لما حكى عن ناقضي العهد في التوحيد والنبوة بأنهم ملعونين ومعذبون في الآخرة فكأنه قيل : لو كان أعداء الله لما أنعم عليهم في الدنيا ؟ فأجاب الله ـ تعالى ـ عنه بهذه الآية وهو أنه ـ تعالى ـ يبسط الرزق على البعض، وبسط الرزق لا تعلق له بالكفر والإيمان، فقد يوجد الكافر موسعاً عليه دون المؤمن، والدنيا دار امتحان.
٢٩٨
قال الواحدي :" ومعنى القدر في اللغة : قطع الشيء على مساوة غيره من غير زيادة ولا نقصان ".
وقال المفسرون في معنى " يَقْدرُ " ههنا : يضيق، لقوله ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ [الطلاق : ٧] ومعناه : أنه يعطيه بقدر كفايته لا يفضل عنه شيء.
وقرأ زيد بن علي :" ويَقْدُر " بضم العين.
قوله :" وفَرِحُوا " هذا استئناف إخبار.
وقيل : بل هو عطف على صلة " الذين " قبل.
وفيه نظر ؛ من حيث الفصل بين أبعاض الصلة بالخبر، وأيضاً : فإن هذا ماض وما قبله مستقبل ولا يدعي التوافق في الزمان إلا أن يقال : المقصود استمرارهم بذلك أو أن الماضي متى وقع صلة صلح [للماضي] والاستقبال.
قوله " فِي الآخِرَةِ "، أي في جنب الآخرة.
" إلاَّ مَتاعٌ " وهذا الجار في موضع الحال تقديره : وما الحياة القريبة الكائنة في جنب الآخرة إلا متاع ولا يجوز تعلقه بالحياة ولا بالدنيا لأنهما لا يقعان إلا في الآخرة.
ومعنى الآية : أن [مشركي] مكة أشروا وبطروا، والفرح : لذة في القلب بنيل المشتهى وفيه دليل على أن الفرح بالدنيا حرام محال ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ﴾ أي قليل ذاهب.
قوله :﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ ألآية اعلم أن كفار مكمة قالوا : يا محمد ـ فأجابهم الله بقوله ﴿إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾.
وبيان كيفية هذا الجواب من وجوه : أحدها : كأنه يقول : إن الله أنزل عليه آيات ظاهرة ومعجزات قاهرة، لكن [الإضلال] والهداية من الله فأضلهم عن تلك الآيات وهدى إليها آخرين، فلا فائدة في تكثير الآيات والمعجزات.
وثانيها : أنه كلام يجري مجرى التعجب من قولهم، وذلك لأن الآيات الباهرة المتكاثرة التي ظهرت على رسول الله ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ كانت أكثر من أن تصير مشتبه على العاقل فلما طلبوا بعدها آيات أخر كان في موضع التعجب والاستنكار، فكأنه قيل لهم : ما أعظم عنادكم ﴿إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ﴾ من كان على صنيعكم من التصميم على الكفر فلا سبيل إلى هدايتكم وإن نزلت كل آية :" ويَهْدِي " من كان على خلاف صنيعكم.
٢٩٩


الصفحة التالية
Icon