وثالثها : لما طلبوا سائر الآيات والمعجمزات فكأنه قال لهم : لا فائدة في ظهور الآيات والمعجزات، فإن الإضلال والهداية من الله ـ تعالى ـ فلو حصلت الآيات الكثيرة ولم تحصل الهداية من الله فإنه لم يحصل الانتفاع بها.
ورابعها : قال الجبائي : المعنى : أنه يضل من يشاء عن رحمته وثوابه عقوبة له على كفره فلستم ممن يجيبه الله ـ تعالى ـ إلى ما يسأل لاستحقاقكم الإضلال عن الثواب ﴿وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾، أي : يهدي إلى جنته من [تاب] وآمن.
قال : وهذا يبين أن الهدى هو الثواب من حيث إنه عقبه بقوله :" من أناب "، أي : من تاب.
والهدى الذي يفعله بالمؤمن هو الثواب ؛ لأنه يستحقه على إيمانه وذلك يدل على أنه ـ تعالى ـ إنما يضل عن الثواب بالعقاب لا عن الدين بالكفر على ما ذهب إليه من خالفنا هذا تمام كلام الجبائي.
والضمير في " إليه " عائد على الله، أي : إلى دينه وشرعه.
وقيل على الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.
وقيل : على القرآن.
قوله :﴿الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ يجوز فيه خمسة أوجه : أحدها : أن يكون مبتدأ خبره الموصول الثاني وما بينهما اعتراض.
الثاني : أنه بدل من " مَنْ أنَابَ ".
والثالث : أنه عطف بيان له.
الرابع : أنه خبر مبتدأ مضمر.
الخامس : أنه منصوب بإظمار فعل.

فصل قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا سمعوا القرآن خشتع قلوبهم واطمأنت.


فإن قيل : أليس قال في سورة الأنفال :﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنفال : ٢] والوجل ضد الاطمئنان، فكيف وصفهم هنا بالاطمئنان ؟.
فالجواب من وجوه : أحدها : أ، هم إذا ذكروا العقوبات ولم يأمنوا أن [يقربوا] المعاصي فهناك الوجل وإذا ذكروا ما وعد الله به من الثواب والرحمة سكنت قلوبهم، فإن أحد الأمرين لا ينافي الآخر ؛ لأن الوجل هو بذكر العقاب والطمأنينة بذكر الثواب.
وثانيها : أن المراد أن يكون القرآن معجزاً يوجب حصو الطمأنينة لهم في كون
٣٠٠
محمد ﷺ نبياً حقاً من عند الله، ولما شكوا في أنهم أتوا بالطاعات كاملة فيوجب حصول الوجل في قلوبهم.
وثالثها : أنه حصل في قلوبهم أنهم هل أتوا بالطاعات الموجبة للثواب أم لا ؟ وهل احترزوا عن المصعية الموجبة للعقاب أم لا ؟.
وقيل : الوجل عند ذكر الله : الوعيد والعقاب، الطمأنينة عند ذكر الله عزّ وجل : الوعد والثواب، فالعقاب توجل إذا ذكرت عدل الله وشدة حسابه، وتطمئن إذا ذكرت فضل الله وكرمه ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ تسكن قلوب المؤمنين ويستقر فيه اليقين.
قال ابن عباس ـ رحمه الله ـ :" هذا في الحلف، يقول : إذا حلف السملم بالله على شيء تسكن قولب المؤمنين إليه ".
قوله ﴿بِذِكْرِ اللَّهِ﴾ يجوز أن يتعلق بـ " تَطْمئِنُّ " فتكون الياء سببية، أي : بسبب ذكر الله.
وقال أبو البقاء : ويجوز أن مفعولاً به، أي : الطمأنينة تحصل لهم بذكر الله.
الثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من " قلوبهم "، أي : تطمئن وفيها ذكر الله.
قوله :﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ فيه أوجه : أن يكون بدلاً من " القُلوب " على حذف مضاف أي : قلوب الذين أمنوا وأن يكمون بدلاً من " مَنْ أنَابَ "، وهذا على قول من لم يجعل الموصول الأول بدلاً من " مَنْ أنَابَ " وإلا كان يتوالى بدلان، وأن يكون مبتدأ، و " طُوبَى " جملة خبرية، وأن تكون خبر مبتدأ مضمر، وأن يكون منصوباً بإضمار فعل، والجملة من " طُوبى لَهُمْ " على هذين الوجهين حال مقدرة، والعامل فيها ءامَنُوا " و " عَمِلُوا :.
قوله " طُوبى لَهُم " وتاو " طُوبَى " منقلبة عن ياء، لأنها من الطيب وإنما قلبت لأجل الضمة قبلها، كموسر وموقن من اليسر واليقين واختلفوا فيها، فقيل : هي اسم مفرد مصدري، كبُشْرَى ورُجْعَى من طَابَ يطِيبُ.
وقيل : بل هي جميع طيبة، كما قالوا : كوسى في جمع كيسة، وضُوقَى في جمع ضِيقَة.
ويجوز أن يقال : طِيبى، بكسر الباء، وكذلك الكِيسَى والضِّيقَى.
وهل هي اسم شجرة بعينها أو اسم للجنة بلغة الهند أو الحبشة ؟.
وجاز الابتداء بـ " طُوبَى " إما لأنها علم لشيء بعينه، وإما لأنها نكرة في معنى الدعاء، كسلام عليك، وويل لك، كذا قال سيبويه.
وقال ابن مالك ـ رحمه الله ـ :" إنه يلتزم رفعها بالابتداء، ولا يدخل عليها نواسخه
٣٠١
" وهذا يرد عليه : أن بعضهم جعلها في هذا الآية منصوبة بإضمار فعل، اي : وجعل لهم طوبى، وقد تأيد ذلك بقراءة عيسى الثقفي " وحُسْنَ مآبٍ " بنصب النون، قال : إنه معطوف على " طُوبَى " وأنها في موضع نصب.
قال ثعلب : و " طُوبَى " على هذا مصدر، كما قال :" سقيا ".
وخرج هذه القراءة صاحب اللوامح على النداء، كيا أسَفَى على الفوت، يعنى أن " طُوبَى " مضاف للضمير معه واللام مقحمة ؛ كقوله :[البسيط] ٣١٧٨ـ..............
يَا بُؤسَ لِلجَهْلِ ضَرَّاراً الأقْوامِ
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٢٩٨
وقوله :[مجزوء الكامل] ٣١٧٨ـ يَا بُؤسَ لِلحَرْبِ الَّتِي


الصفحة التالية
Icon