وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} تقدم مثله [آل عمران : ٩٩].
قوله تعالى :﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ﴾ فيه إضمار تقديره : يستحبّون الحياة الدنيا، ويؤثرونها على الآخرة ؛ فجمع ـ تعالى ـ بين هذين الوصفين ليبين بذلك أن الاستحباب للدُّنيا وحده لا يكون مذموماً إلاَّ أن يضاف إليه إيثارها على الآخرة، [وأما] من أحبَّها ليصل بها إلى منافع النَّفس بثوابِ الآخرة ؛ فذلك لا يكونُ مذموماً.
والنوع الثاني من أوصاف الكفار : قوله ـ عزَّ وجلَّ ـ ﴿وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي : يمنعوا النَّاس من قبول دين الله.
والنوع الثالث من تلك الصفات قوله :﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾.
واعلم انَّ الإضلال على مرتبتين.
الأولى : أن يسعى في صدّ الغير.
والثانية : أن يسعى في إلقاء الشُّكوكِ، والشبهات في المذهب الحق، ويحاول تقبيح الحق بكل ما يقدر عليه من الحيلِ، وهذا هو النهاية في الضلال، والإضلال، وإليه أشار بقوله :﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾.
قال الزمخشريُّ :" الأصل في الكلام أن يقال : ويبغون لها عوجاً ؛ فحذف الجار وأوصل الفعل ".
وقيل : الهاء راجعة إلى الدُّنيا معناه : يطلبون الدُّنيا على طريق الميل عن الحق، أي : بجهة الحرام.
ولما ذكر الله ـ تعالى ـ هذه المراتب قال في وصفهم :﴿أُوْلَـائِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ﴾ وإنَّما وصف الله ـ تعالى ـ هذا الضلال بالبعد لوجوهٍ : الأول : أنَّ أقصى مراتب الضلال هو البعد عن الطريق الحقّ، فإنَّ شرط الضدين أن يكونا في غاية التَّباعدِ كالسَّواد، والبياض.
الثاني : أن المراد بعد ردّهم عن الضَّلال إلى الهدى.
الثالث : أن امراد بالضَّشلال : الهلاك، والتقدير : أولئك في هلاك يطُولُ عليهم فلا ينقطع، وأراد بالبعد : امتداده وزوال انقطاعه.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٢٨
قوله :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ الآية لما ذكر في أوّل السورة :﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [إبراهيم : ١] فكان هذا إنعاماً من الله على الرسول من حيث إنَّه فوض إليه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ هذا الأمر العظيم وإنعاماً على الخلقِ حيثُ أرسل إليهم من خلصهم من ظلمات الكفر [إلى الرشد]، وأرشدهم إلى نور الإيمان.
ذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تعهد النعمة، والإحسان في الوجيهن ؛ أمَّا بالنسبة إلى الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ؛ فلأنه تعالى بين أنَّ سائر الأنبياء ـ عليه الصلاة و السلام أجمعين ـ كانوا مبعوثين إلى قومهم خاصة، وأنت يا محمد فمبعوث إلى عالم البشر، فكان هذا الإنعام في حقك أفضل وأكمل، وأما بالنسبة إلى عامة الخلق فهو أنه ـ تعالى ـ ما بعث رسولاً إلى قوم إلا بلسانهم ليسهل عليهم فهم تلك الشريعة فهذا وجه النظم.
قوله :﴿إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ يجوم أن يكون حالاً، أي : إلاَّ [متكلماً] بلغة قومه.
قال القرطبي :" وحَّد اللسان، وإن أضافه إلى القوم ؛ لأن المراد به اللغة فهو اسم حنسٍ يقع على القليلِ، والكثير ".
وقرأ العامة :" بلِسانِ " بزنة كتابِ، أي : بلغةِ قومهِ.
وقرأ أبو الجوزاء وأبو السمالِ وابو عمران الجوني : بكسر اللام وسكون السين، وفيه قولان : أحدهما : أنَّهما بمعنى واحد، كالرِّيشِ والرِّياش.
والثاني : أنَّ اللسان يطلق على العضو المعروف وعلى اللغةِ، وأمَّا اللِّسنُ فخاص باللغة، ذكره ابن عطيَّة، وصاحب اللَّوامح.
وقرأ أبو رجاء، وأبو المتوكل، والجحدريُّ : بضم اللام والسين، وهو جمع
٣٣٥


الصفحة التالية
Icon