فصل قال ابنُ عبَّاسٍ، وأبيُّ بن كعب، ومجاهدٌ وقتادة ـ رضي الله عنهم ـ وذكرهم بنعم الله.


وقال مقاتلٌ : بوقائع الله في الأمم السَّالفة.
يقال : فلان عالم بأيَّام العرب، أي : بوقائعهم، فأراد بما كان في أيَّام الله من النَّعمة، والمحنة فاجتزأ بذكر الأيام عنه ؛ لأنَّها كانت معلومة عندهم، والمعنى : عظهم بالترغيب والترهيب، والوعد، والوعيد، فالتّرغيب، والوعد : أن يذكرهم ما أنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالله ممن سلف من الأمم والترهيب والوعيد أن يذكرهم بأس الله وعذابه النازل بمن كذب بالرسل فيما سلف من الأيَّام، كعادٍ، وثمود وغيرهم.
واعلم أن أيَّام الله في حقِّ موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ منها ما كانت أيام محنة وبلاء، وهي الأيام التي كانت بنو إسرائيل تحت قهر فرعون.
ومنها : ما كانت راحة ونعماً كأيَّام إنزال المن، والسلوى، وفلق البحر، وتظليل الغمام.
﴿إِنَّ فِي ذالِكَ﴾ التّذكر " لآياتِ " دلائل ﴿لِّكُلِّ صَبَّارٍ﴾ كثير الصّبر ﴿شَكُورٍ﴾ كثير الشُّكر.
فإن قيل : ذلك التذكر آيات للكلّ، فلم خصّ الصَّبَّار الشَّكور بالذِّكر ؟.
فالجواب : أنهم هم المنتفعون بالذكر بتلك الآيات كقوله :﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة : ٢].
وقيل : لأن الانتفاع بهذا النَّوع من الذكر لا يمكن حصوله إلا للصَّبَّار الشَّكور.
ولما أمر موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يذكرهم بأيَّام الله، وحكى عن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ، أنَّه ذكَّرهم فقال تعالى :﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾.
فقوله :﴿أَنجَاكُمْ﴾ ظرف للنعمة، بمعنى الإنعام، أي : اذكروا نعمة الله عليكم في ذلك الوقت.
٣٤١
قوله :﴿إِذْ أَنجَاكُمْ﴾ يحجوز في ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون منصوباً بـ " نِعْمَةَ ".
الثاني : أن يكون منصوباً بـ " عَلْكُمْ "، ويوضح ذلك ما ذكره الزمخشري رحمه فإنه قال :" إذْ أنْجَاكُمْ " ظرف للنعمة بمعنى الإنعام، أي : إنعامه عليكم ذلك الوقت.
فإن قلت : هل يجوز أن ينتصب بـ " عَليْكُمْ ".
قلت :" لا يخلُو إما أن يكون [إنعام] صلة للنعمة بمعنى الإنعام [أو غير] صلة، إذا أردت بالنعمة العطية، فإذا كان صلة لم يعمل فيه ويتبين الفرق بين الوجيهن، أنَّك إذا قلت : نعمة الله عليكم، فإن جعلته صلة لم يكن كلاماً حتى تقول فائضة أو نحوها وإلا كان كلاماً ".
الثالث : أنه بدل من عمة أي : اذكروا وقت إنجازكم، وهو بدل اشتمال، وتقدم الكلام في " يسومونكم ".
قوله :" ويذبحون " حال أخرى من آل فرعون، وفي البقرة دون " واو " لأن قصد التفسير لسؤال العذاب، وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو، وتقول : أتاني القوم : زيدٌ وعمرو، وذلك قوله تعالى :﴿وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ﴾ [الفرقان : ٦٨، ٦٩] لما فسر الآثام بمضاعفة العذا بحذف الواو، وهاهنا أدخل الواو بمعنى أنهنم يعذبونهم بالتذبيح وبغيره، فالسوم هنا غير السوم هناك.
وقرأ بان محيصن " يَذْبَحُونَ " مخففاً، و " يستحيون نساءكم " يتركونهن أحياء، " وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم "، وفي كونه بلاء وجهان : الأول : أن تمكين الله أياهم من ذلك الفعل بلاءٌ من الله.
والثاني : أن ذلك إشارة إلى الإنجلاء، وهو بلاء عظيم، والبلاء هو الابتلاء، وذلك قد يكون بالنعمة تارة، وبالمحنة أخرى، قال تعالى :﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء : ٣٥] وهذا أولى لأنه موافق لأول الآية وهو قوله :﴿اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾، قاله ابن الخطيب ـ رحمه الله ـ.
قوله :﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ﴾ يجوز أن يكون نسقاً على :﴿إِذْ أَنجَاكُمْ﴾، وأن يكون منصوباً بـ " اذْكُرُوا " مفعولاً لا ظرفاً.
وجوَّز فيه الزمخشري : أن يكون نسقاً على :" نِعْمةَ " فهو من قول موسى، والتقدير وإذ قال موسى اذكروا نعمة الله، واذكروا حين تأذن، وقد تقدَّم نظير ذلك في الأعراف.
٣٤٢
ومعنى :" تَأذَّنَ " آذن ربكم إيذاناً بليغاً، أي : أعلم، يقال : أذَّن وتَأذَّن بمعنى واحد مثل : أوعد وتوعَّد، وروي ذلك عن الحسن وغيره ومنه الأذان ؛ لأنه إعلام قال الشاعر :[الوافر] ٣١٩٥ـ فَلمْ نَشْعُر بضَوْسِ الصُّبْحِ حَتَّى
سَمِعْنَا في مَجَالِسنَا الأذِينَا
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٣٥


الصفحة التالية
Icon