وقد مضى هذا المعنى في آل عمران [١١٩] فـ " في " على بابها من الظرفية، أي : فردُّوا أيديهم على أفواههم ضحكاً، واستهزاء، فـ " فِي " بمعنى " عَلَى " وأشاروا إلى ألسنتهم وما نطقوا به من قولهم : إنَّا كَفرنا، فـ " عَنْ " بمعنى " إلى " ويوجوز أني كون المرفوع للكفار، والأحزان للرسل صلوات الله وسلامه عليهم على أن يراد بالأيدي : النّعم، أي : ردوا نعم الرسل وهي مصالحهم في أفواه الرسل ؛ لأنهم إذا كذبوها كأنهم رجعوا بها من حيث جاءت على سبيل المثال، ويجوز أن يراد المعنى، والمراد بالأيدي : الجوارح، ويجوز أن يكون الأولان للكفَّار، والأخير للرسل، فرد الكفار أيديهم في أفواههم أي في أفواه الرسل، أي أطبقوا أفواههم يشيرون إليهم بالسُّكوت، أو وضعوها على أفواههم يمنعونهم بذلك من الكلامِ.
وقيل :" في " هنا بمعنى الباء.
قال الفراء :" قد وجدنا من العرب من يجعل " في " موضع الباء، يقال : أدخلتُ بالجنَّة، أدخلت في الجنَّة " وأنشد :[الطويل] ٣١٩٨ـ وأرْغَبُ فِيهَا عَنْ لَقِيطٍ ورَهْطهِ
ولكنَّنِي عَنْ سِنْبِسٍ لسْتُ أرْغَبُ
أي : أرغب بها.
وقال أبو عبيد ـ رحمه الله ـ : هذا ضرب مثل يقوله العربُ : رد يده إلى فيه إذا ترك ما أمره به.
ورد عليه : بأن من حفظ حجَّة على من لم يحفظ.
وقال أبو مسلم : المراد باليدِ : ما نطقت به الرُّسل من الحجج ؛ لأنَّ إسماع الحجَّة إنعام عظيم، والإنعام يسمى يداً، يقال لفلان عندي، يد إذا أولاه معروفاً وقد يذكر اليد والمراد منها صفقة البيع والعقد، كقوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح : ١٠] فالبينات التي ذكرها الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ وقرَّرها لهم نعم وأياد، وأيضاً : العهود التي أتوابها مع القوم أيادي.
وجمع اليد في القلة : أيْدِي، وفي الكثرة أيَادي.
وإذا ثبت أنَّ بيانات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وعهودهم يصح تسميتها بالأيدي والنصائح، والعهود إنَّما تظهر من الفمِ، فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت فلما كان القبول تلقياً بالأفواه عن الأفواه كان الدفع ردًّا في الأفواه.
٣٤٦
ونقل محمد بن جرير عن بعضهم : أنَّ معنى قوله تعالى :﴿فَرَدُّوا ااْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ﴾ أي : سكتوا عن الجواب، يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب : ردَّ يدهُ في فيه، إذ لم يجبه، ثمَّ زيف هذا الوجه وقال : إنَّهم أجابوا بالتَّكذيب وقالوا : إنَّا بما أرسلتم به كافرون وقالوا :" إنَّا كَفرْنَا بِمَا أرْسِلْتُم بِهِ " قوله تعالى :﴿وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ قرأ طلحة :" تَدعُونَّا " بإدغام نون الرفع في نون الضمير كما يدغم في نون الوقاية، والمعنى : في شكِّ مريب موقع في الريبة أي : ذي ريبة من أرابه، والريبة : لقلق النفس، وألاّ [تطمئن] إلى الأمر.
فإن قيل : لما ذكروا أنهم قالوا : إنَّا كافرون برسالتكم، وإن لم ندع هذا الجزم واليقين، فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم وعلى هذا التقدير فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم.
قوله تعالى :﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ﴾ الآية لما قالوا للرُّسلِ : وإنا لفي شك، قالت لهم رسلهم وهل تشكون في الله، وهو فاطر السموات، والأرض وفاطر أنفسنا، وأرواحنا، وأرزاقنا إنَّا لا ندعوكم إلا لعبادة هذا الإله المنعم، ولا نمنعكم إلا من عبادة غيره، وهذه المعاني يشهد لها العقل بصحتها، فكيف قلتم : وإنَّا لفي شكٍّ ؟.
قوله :﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ﴾ استفهام بمعنى الإنكار، وفي " شكٌّ " وجهان : أظهرهما : أنه فاعل بالجار قبله، وجاز ذلك لاعتماده على الاستفهام.
والثاني : أنه مبتدأ، وخبره الجار، والأولى أولى ؛ بل كان ينبغي أن يتعين ؛ لأنه يلزم من الثاني الفصب لبين الصفة، والموصوف بأجنبيّ، وهو المبتدأ وهذا بخلاف الأوَّل، فإ، الفاصل ليس أجنبيًّا، إذ هو فاعله، والفاعل كالجزء من رافعه.
ويدلُّ على ذلك تجوزيهم :" مَا رَأيْتُ رجلاً أحْسنَ في عَيْنهِ الكُحْلُ مِنهُ في عَيْنِ زيْدٍ " بنصب " أحْسَنَ " صفة ورفع " الكُحْلُ " فاعلاً بـ " أفعل " ولم يضر الفصل به بين " أفْعَلَ " وبين " مِنْ " لكونه كالخبر من رافعه ولم يجيزوا رفع : أحْسَن " خبراً مقدماً، و " الكُحْلُ " مبتدأ مؤخر لئلا يلزم الفصل بين " أفعل " وبين " من " بأجنبي.
ووجه الاستشهاد في هذه المسألة : أنَّهم جعلوا المبتدأ أجنبيًّا بخلاف الفاعل ولهذه المسألة موضع غير هذا.
وقرأ العامة " فاطِرِ " بالجر وفيه وجهان : النعت والبدلية.
قال أبو البقاء وفيه نظر ؛ لأنَّ الإبدال بالمشتقات يقلّ ولو جعله عطف بيان كان أسهل.
٣٤٧


الصفحة التالية
Icon