قال ابن الخطيب ـ رحمه الله ـ : دلت هذه الآية على أنَّ الشيطان [الأصلي] هو النفس ؛ لأن الشيطان بين أنَّه ما أتى إلاَّ بالوسوسة، فلولا الميل الحاصل بسبب الشهوة، والغضب، والوهم، والخيال لم يكن لوسوسته تأثير ألبتَّة، فدل على أنَّ الشيطان الأصلي هو النفس.
فإن قيل : لِمَ قال الشيطان :" فَلا تَلُومونِي ولُومُوا أنْفُسكمْ " وهو ملوم بسبب وسوسته ؟.
فالجواب : أراد لا تلوموني على فعلكم :" ولوموا أنفسكم " عليه ؛ لأنكم عدلتم عما توجه من هداية الله ـ تعالى ـ لكم.
قوله تعالى :﴿مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾ العامَّة على فتح الياءِ ؛ لأ، الياء المدغم فيها تفتح أبداً، لاسيما وقبلها كسرتان.
وقرأ حمزة بكسرها، وهي لغة بني يربوع، وقد اضطربت أقوال النَّاسِ في هذه القراءة اضراباً شديداً، فمن مجترىء عليها، ملحن لقارئها، ومن مجوِّز لها من غير ضعف قال : إنَّها لغة بني يربوع، والأصل : بمُصرخينَ لي [فحذفت] النون للإضافة وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة، ومن مجوِّز لها بضعف.
قال حسين الجعفيُّ ـ رحمه الله ـ : سألت أبا عمرو عن كسر الياء ؛ فأجازه وهذه الحكايةُ تحكى عنه بطرق كثيرة منها ما تقدَّم.
ومنها : سألت أبا عمرو، قلت : إنَّ أصحاب النحو يلحنوننا فيها، فقال : هي جائزة عن القرآن، فوجته به عالماً، فسألته عن شيء قرأ به الأعمش، [واستقرأ] به :﴿وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾ بالجر، فقلا : هي جائزة، فلما أجازها وقرأ بها الأعمش أخذت بها.
وقد أنكر أبو حاتم على أبي عمرو تحسينه لهذه القراءة، ولا التفات إليه ؛ لأَنَّه علم من أعلام القرآن، واللغة، والنحو، واطلع على ما لم يطلع عليه من فوق السجستاني :[البسيط]
٣٧١
٣٢٠٧ـ وابْنُ اللَّبُونِ إذا ما لُزَّ في قَرنٍ
لمْ يَسْتطِعْ صَوْلشةَ البُزْلِ القَناعِيسِ
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٦٦
ثم ذكر العلماؤ في ذلك التوجيهات : منها : أن الكسر على أصل التقاء الساكنين، وذلك أنَّ ياء الإعراب ساكنة وياء المتكلم أصلها السُّكون، فلما التقيا كسرت ؛ لالتقاء الساكنين.
الثاني : أنها تشبه هاء الضمير في أنَّ كلاًّ منهما ضمير على حرف واحد و " هاء " الضمير توصل بواو إذا كانت مضمومة، وبياء إذا كانت مكسورة، وتكسر بعد الكسرة والياء ساكنة ؛ فتكسر كما تكسر الهاء في :" عَليْهِ "، وبنو يربوع يصلونها بياء كما يصل ابن كثير نحو " عليهي " بياء، فحمزة كسر هذه الياء من غير صلة، إذ أصله يقتضي عدمها.
وزعم قطربٌ أنها لغة بني يربوع.
قال : يزيدون على ياء الإضافة ياء ؛ وأنشد :[الرجز] ٣٢٠٨ـ مَاضٍ إذَا ما هَمَّ بالمُضِيِّ
قَال لهَا : هَلْ لَكِ يَا تَفِيِّ
وأنشده الفراء وقال : فإن يك ذلك صحيحاً، فهو مما يلتقي من السكانيني فنخفض الآخر منها.
وقال أبو علي : قال الفرَّاءُ في كتاب التصريف له : زعم القاسم بن معنٍ أنه صواب، وكان ثقة بصيراً.
وممن طعن عليها أبو إسحاق قال : هذه القرءاة عند جميع النحويين رديئةٌ مرذولة، ولا وجه لها إلا وجه ضعيف.
وقال أبو جعفر :" صار هذا إدغاماً، ولا يجوز أن يحمل كتاب الله ـ عزَّ وجلَّ ـ على الشذوذ ".
وقال الزمخشري : هي ضعيفة، واستشهدوا لها ببيت مجهول :[الرجز] ٣٢٠٩ـ قَال لهَا : هَلْ لكِ يَا تَافيِّ
قالتْ لهُ : مَا أنْتَ بالمَرْضِيِّ
وكأن قدر ياء الإضافة ساكنة، وقبلها ياء سكانة فحركها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين، ولكنه غير صحيح ؛ لأنَّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف نحو : عَصَاي، فما بالها وقبلها ياء ؟.
٣٧٢
فإن قلت : جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام، فكأنها ياء وقعت بعد حرف صحيح ساكن فحركت بالكسر على الأصل.
قلت : هذا قياس حسنٌ، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات.
قال أبو حيا اان ـ رحمه الله تعالى ـ :" أما قولهن : واستشهدوا لها ببيت مجهول، فقد ذكر غيره أنه للأغلب العجلي، وهي لغة باقية في أفواه كثير من النَّاس إلى اليوم، يقولون : ما فيِّ أفعلُ كذا بكسر الياء ".
قال شهابُ الدِّين : الذي ذكره صاحب هذا الرجز هو الشيخ أو شامة قال ورأيته أنا في أوَّل ديوانه، وأول هذا الرجز : ٣٢١٠ـ أقْبَلَ فِي ثَوْبٍ مَعَافِريِّ
عِنْدَ اختلاطِ اللَّيْلِ والعَشِيَّ
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٦٦


الصفحة التالية
Icon