الثاني : أن " يُقِيمُوا " مجزوم على جواب :" قُلْ "، وإليه نحا الأخفش والمبرد.
وقد رد النَّاس عليهما هذا ؛ بأنه لا يلزمُ من قوله لهم : أقيموا أن يفعلوا ذم من تخلف عن هذا الأمر.
وقد أجيب عن هذا : بأنَّ المراد بالبعادِ المؤمنون، ولذلك أضافهم إليه تشريفاً والمؤمنون متى أمروا ؛ امتثلوا.
الثالث : أنه مجزومٌ على جواب المقولِ المحذوفِ، تقديره : قل لعبادي أقيموا وأنفقوا، أي : يقيموا وينفقوا، قاله أبو البقاء رحمه الله ـ وعزاه للمبرّد، كذا ذكره جماعةٌ ولم يتعرّضوا لإفساده، وهو فاسدٌ من وجهين : أحدهما : أن جواب الشَّرط يخالف الشَّرط إما في الفعل، وإما في الفاعل، أو
٣٨٦
فيهما وأمَّا إذا كان مثله في الفعل والفاعل، فهو خطأ، كقولك : قُمْ يَقُمْ، والتقدير على ما ذكره في وهذا الوجه : أن يُقِيمُوا يُقِيمُوا.
والوجه الثاني : أنَّ الأمر المقدر للمواجهة، و " يُقِيمُوا " على لفظ الغيبة، وهو خطأ إذا كان الفاعل واحداً.
قال شهاب الدين :" أمَّا الإفساد الأوَّل فقريب، وأمَّا الثاني، فليس بشيء لأنَّه يجوز أن يقول : قل لعبدي أطعني يطعك، وإن كان للغيبة بعد الموجهة باعتبار حكاية الحال ".
الرابع : أن التقدير : أن يقول هلم : أقيموا يقيموا، وهذا مروي عن سيبويه فيما حكاه ابن عطية، وهذا هو القول الثاني.
الخامس : قال ابن عطية :" يحتمل أن يكون " يُقِيمُوا " جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله " قُلْ " وذلك أن تجعل " قُلْ " في هذه الآية بمعنى بَلَّغ وَأدِّ الشَّريعة يقيموا الصَّلاة ".
السادس : قال الفراء : الأمر معه شرط مقدر، تقولُ : أطِعِ الله يُدخِلْكَ الجنَّة والفرق بين هذا، وبين ما قبله : أنَّ ما قبله ضمن فيه الأمر نفسه معنى الشَّرط، وفي هذا قدر فعل الشرط بعد فعل الأمر من غير تضمينٍ.
السابع : قال الفارسي إنَّه مضارع صرف عن الأمر إلى الخبر، ومعناه : أقيموا.
وهذا مردودٌ ؛ لأنه كان ينبغي أن تثبت نونه الدالةٌ على إعرابه.
وأجيب عن هذا : بأنه بني لوقوعه موقع المبني، كما بني المنادى في نحو : يَا زَيْدُ لوقوعه موضع الضمير.
ولو قيل : بأنَّه حذفت نونه تخفيفاً على حد حذفها في قوله :" لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابروا ".
وفي معمول " قُلْ " ثلاثة أوجه : الأول : الأمر المقدر، أي : قل لهم أقيما يقيموا.
الثاني : أنه نفس " يُقِيمُوا " على ما قاله ابن عطية.
الثالث : أنَّه الجملة من قوله :﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ إلى أخره، قاله ابن عطية ؟ وفيه تفكيك النَّظم، و جعل الجملة :﴿يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾ إلى آخرها مفلتاً مما قبله وبعده، أو يكون جواباً فصل به بين القولين، ومعموله، لكنه لا يترتب على قوله ذلك : إقامة الصلاة، والإنفاق إلا بتأويل بعيد جدًّا.
٣٨٧
وقرأ حمزة والكسائي :" لِعبَادِيْ " بسكون الياء، والباقون بفتح الياءِ لالتقاءِ الساكنين.
قوله :﴿سِرّاً وَعَلانِيَةً﴾ في نصبهما ثلاثة أوجه : أحدها : أنَّهما حالان مما تقدجم، وفيهما الثلاث التأويلات في : زيْدٌ عدْلٌ، أي : ذَوِي سرٍّ، وعلانيةٍ، أو مُسرِّينَ مُعلِنينَ، أو جعلوا نفس السر والعلانية مبالغة.
الثاني : أنهما منصوبان على الظرف، أي : وقتي سر وعلانية.
الثالث : أنهما منصوبان على المصدر، أي : إنفاق سرِّ، وإنفاق علانية.
قوله :﴿مِن قَبْلِكُمْ﴾ متعلق بـ :" يُقِيمُوا " و " يُنْفِقُوا " أي : يفعلون ذلك قبل هذا اليوم.
وقد تقدَّم خلاف القراء في :" لا بيعٌ فيه ولا خلالٌ ".
والخِلال المُخالة، وهي المُصاحبة، يقال : خاللته خِلالاً، ومخالَّة ؛ قال طرفة :[السريع] ٣٢٢٥ـ كُلُّ خَليلٍ كُنْتُ خَالَلْتُهُ
لا تَراكَ اللهُ لَهُ وَاضِحَه
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٨٥
وقال امرؤ القيس :[الطويل] ٣٢٢٦ـ صَرْتُ الهَوَى عَنْهُنَّ مِنْ خَشْيةِ الرَّدَى
وَلسْتُ بِمقْليِّ الخِلالِ ولا قَالِ
وقال الأخفش : خِلال جمع لـ " خلة "، نحو " بُرمَة وبِرَام ".

فصل قال مقاتلٌ : يوم لا بيع فيه، ولا شراء، ولا مخالفة، ولا قرابة.


وقد تقدَّم الكلام على نحو هذه الآية في البقرة [٢٥٤].
فإن قيل : كيف نفى الخلة هاهنا وأثبتها في قوله :﴿الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف : ٦٧] ؟.
فالجواب : أن الآية الدَّالة على نفي المخالة محمولة على نفي المُخَاللَة بسبب ميل الطبع، ورغبة النفس، و الآية الدَّالة على حصول المُخَاللَة، محمولة على الخُلَّة الحاصلة بسبب عبودية الله ـ تعالى ـ ومحبَّتهِ.
قوله تعالى :﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ الآية لما وصف أحوال السعداء،
٣٨٨


الصفحة التالية
Icon