وعن عمر ـ رضي الله عنه ـ ليس بالطقران، ولكنَّه النحاس الذي يصير بلونه.
قال ابن الأنباري :" تلك النَّار لا تبطل ذلك القطران، ولا تفنيه، كما لا تهلك أجسادهم النَّار، والأغلال التي عليهم ".
واعلم أنه يطلى بذلك القطران جلود أهل النَّار حتَّى يصير ذلك الطِّلاء كالسِّربال، وهو القميص، فيحصل بسببه أربعة أنواع من العذاب : لذع القطران وحرقته، وإسراع النَّار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الرِّحِ، وأيضاً : التفاوت بين قطران القيامة، وقطران الدنيا كالتَّفاوت بين النارين.
قوله :﴿وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ﴾ قرىٍ " وتَغَشَّى " بتشديد الشِّين، أي : وتتغشى فحذفت إحدى التَّاءين.
وقرىء برفع :" وُجوهُهُم " ونصب " النَّار " على سبيل المجازِ، جعل ورود الوجوه النار غشياناً.
والجملة من قوله :" وتَغْشَى " قال أبو البقاءِ :" حال أيضاً ".
يعني أنَّها معطوفة على الحالِ، ولا يعني أنَّها حال، والواو للحال، لأنَّه مضارع مثبت.
فصل المعنى :[تعلو] النَّار وجوههم، ونظيره قوله تعالى :﴿أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُواءَ الْعَذَابِ﴾ [الزمر : ٢٤] وقوله :﴿يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ﴾ [القمر : ٤٨].
واعلم أنَّ موضع المعرفة والنَّكرة، والعلم، والجهل ه والقلبُ، وموضع الفكر، والوهم والخيال هو الرَّأس، وتأثير هذه الأحوال يظهر في الوجه، فلهذا السبب خص الله ـ تعالى ـ هذين العضوين بظهور آثار العقاب فيهما، قال الله تعالى [في القلب] :﴿نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ﴾ [الهمزة : ٦، ٧] وقال تعالى في الوجه :﴿وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ﴾.
قوله :﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾ في هذه الأيام وجهان : أظهرهما : أنَّها تتعلق بـ " بَرَزُوا " وعلى هذا فقوله :" وتَرَى " جلمة معترضة بين المتعلق، والمتعلق به.
والثاني : أنها تتعلق بمحذوف، أي : فعلنا بالمجرمين، ذلك ليجزي كل نفس لأنه إذا عاقب المجرم ؛ أثاب الطَّائع.
٤١٩
قال الواحدي :" المرادُ : أنفسُ الكفَّار ؛ لأن ما سبق ذكره لا يليق أن يكون جزاء لأهعل الإيمان، ويمكن إجراء اللفظ على عمومه، وأنه ـ تعالى ـ يجزي كلَّ نفسٍ ما كسبتن من عملها اللائق بها، فيجزي الكفار بهذا العقاب المذكور، ويجزي المؤمن المطيع الثَّواب وأيضاً، فالله ـ تعالى ـ لما عاقب المجرمين بجرمهم، فلأن يثيب المطيعين أولى ".
ثم قال تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ أي : لا يظلمهم، ولا يزيد على عقابهم الذي يستحقه.
قوله تعالى :﴿هَذَا بَلاَغٌ﴾ إشارة إلى ما تقدَّم من قوله :" ولا تحْسَبنَّ " إلى هنا، أو إلى كلِّ القرآن، نزل منزلة الحاضر بلاغ، أي : كافية في الموعظة.
قوله تعالى :﴿وَلِيُنذَرُواْ بِهِ﴾ فيه أوجه : أحدها : أنه متعلقٌ بمحذوف، أي : ولينذروا أنزلنا عليك.
الثاني :[أنه معطوف على محذوف، وذلك المحذوف متعلق بـ " بلاغ "، تقديره : لينصحوا ولينذروا].
الثالث : أن الواو مزيدة :" ولِيُنْذَرُوا " متعلق بـ " بَلاغٌ "، وهو رأي الأخفش نقله الماورديُّ.
الرابع : أنه محمولٌ على المعنى، أي : ليبلغوا، ولينذروا.
الخامس : أن اللام لام الأمر، وهو حسنٌ، لولا قوله :" ولِيَذَكَّرَ " فإن منصوب فقط.
قال شهاب الدين : قال بعضهم : لا محذور في ذلك، فإن قوله :" لِيَذَّكرَ " ليس معطوفاً على ما تقدمه، بل متعلق بفعل مقدر، أي : وليذكر أنزلناه وأوحيناه.
السادس : أ، ه خبر لمبتدأ مضمر، التقدير : هذا بلاغ، وهو لينذروا قاله ابن عطيَّة.
السابع : أنه عطف مفرداً على مفردٍ، أي : هذا بلاغ وإنذار، قاله المبردُ وهو تفسير معنى لا إعراب.
الثامن : أنه معطوف على قوله :" يُخْرجَ النَّاسَ " في أول السورة، وهذا غريب جدًّا.
التاسع : قال أبو البقاء :" المعنى هذا بلاغٌ للنَّاسِ، والإنذارُ متعلق بالبلاغ أو بمحذوف إذا جعلت النَّاس صفة.
ويجوز أن يتعلق بمحذوف، وتقديره : ولينذروا به أنزل، أو تلي ".
٤٢٠
قال شهاب الدين :" فيؤدّي التقدير إلى أن يبقى التركيب : هذا بلاغ للإنذار والإنذار لا يتأتي فيه ذلك ".
وقرأ العامة :" لِيُنذَرُوا " مبنيًّا للمفعول.
وقرأ مجاهدٌ وحميد بن قيس :" ولتُنْذِرُوا " بتاء مضمومة، وكسر الذال ـ كأن البلاغ للعموم، والإنذار للمخاطبين، وقرأ يحيى بن عمارة الدراع من أبيه وأحمد بن يزيد بن أسيد السلمي " ولِيَنْذَرُوا " بفتح الياء والذال من نَذرَ بالشَّيء، أي : علم به فاستعد له.
قالوا : ولو لم يعرف مصدر فهو كـ " عَسَى "، وغيرها من الأفعال التي لا مصارد لها.
فصل معنى " لِيُنْذَرُوا " أي : وليخوفوا به ﴿وَلِيَعْلَمُوا ااْ أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ﴾ أي : يستدلُّوا بهذه الآيات على وحدانيَّة الله ـ تعالى ـ :﴿وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾ أي : يتّعظ أولو العقول.
قال القاضي : أول هذه السورة، وأخرها يدلُّ على أنَّ العبد مستقل بفعله إن شاء أطاعه، وإن شاء عصى.
أمَّا أوَّل هذه السورة فقوله تعالى :﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [إبراهيم : ١] وقد ذكرناه هناك.
وأمَّا آخر السورة فقوله تعالى :﴿وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾ يدلُّ على أنَّه ـ تعالى ـ إنَّما أنزل هذه السورة، وذكر هذه المواعظ ؛ لأجل أن ينتفع بها الخلق ؛ ليصيروا مؤمنين مطيعين، ويتركوا الكفر والمعصية، وقد تقدم جوابه.
روى أبو أمامة عن أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ﷺ :" مَنْ قَرَأ سُورة إبْرَاهِيم أعْطِيَ مِنَ الأجْرِ عَشر حَسناتٍ بِعدَدِ مَنْ عَبدَ الأصْنامَ، ومَنْ لَمْ يَعْبُدهَا ".
٤٢١
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٤٠٥


الصفحة التالية
Icon