وقول سليم :[الطويل] ٣٢٥٩ـ ومُعْتَصِمٍ بالحيِّ من خَشْيَةِ الرَّدَى
سَيَرْدَى وغَازٍ مُشفِقٍ سَيَئُوبُ
فإن حرف التنفيس، و " غداً " خلَّصاه للاستقبال.
و " رُبَّ " تدخل على الاسم، و " رُبَّما " على الفعل، ويقال : ربَّ رجُلٍ جَاءنِي، ورُبَّما جَاءنِي.
و " ما " في " رُبمَا "، تحتمل وجهين : أظهرهما : أنها المهيئة، بمعنى أنَّ " رُبَّ " مختصة بالأسماءِ، فلما جاءت هنا " ما " هيَّأت دخولها على الأفعال وقد تقدم نظير ذلك [يونس : ٢٧] في " إنَّ " وأخواتها ويكفها أيضاً عن العمل ؛ كقوله :[الخفيف] ٣٢٦٠ـ رُبَّما الجَامِلُ المُؤبَّلش فِيهِمْ
..........................
في رواية من رفعه كما جرى ذلك في كاف التشبيه.
والثاني : أنَّ " مَا " نكرة موصوفة بالجملة الواقعة بعدها، والعائد على " ما " محذوف تقديره : ربَّ شيء يوده الذين كفروا، ومن لم يلتزم مضيَّ متعلقها، لم يحتج إلى تأويل، ومن التزم ذلك قال : لأن المترقب في إخبار الله تعالى واقعٌ لا محالة، فعبَّر عنه بالماضي، تحقيقاً لوقوعه ؛ كقوله تعالى :﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾ [النحل : ١] ونحوه.
قوله :" لَوْ كَانُوا " يجوز في " لَوْ " وجهان : أحدهما : أن تكون الامتناعيَّة، وحينئذ، يكون
٤٢٤
جوابها محذوفاً، تقديره لو كانُوا مسلمين لسرُّوا أو تخلصوا مما هم فيه، ومفعول " يوَدُّ " محذوف على هذا التقدير، أي : ربما يودُّ الذين كفروا النجاة، دلَّ عليه الجملة الامتناعية.
والثاني : أنَّها مصدرية عند من يرى ذلك، كما تقدم تقريره في البقرة [البقرة : ٩٦] ؛ وحنيئذ يكون هذا المصدر المؤولُ هو المفعول للودادة، أي : يودُّون كونه مسلمين، إن جعلنا " ما " كافة، وإن جعلناها نكرة، كانت " لَوْ " وما في حيِّزها بدلاً من " مَا ".

فصل المعنى : يتمنَّى الذين كفورا لو كانوا مسلمين، واختلفوا في الحال التي يتمنى الكافر فيها.


قال الضحاك : حال المعاينة.
وقيل : يوم القيامة.
والمشهور : أنه حين يخرجُ الله المؤمنين من النار.
روى أبو موسى الأشعريُّ ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ﷺ قال :" إذَا اجْتمعَ أهْلُ النَّار في النَّارِ، ومعهُمْ من شَاءَ اللهُ مِنْ أهْلِ القِبْلةِ، قال الكفَّارُ لمِنْ في النَّار من أهْلِ القِبْلةِ : ألَسْتُم مُسْلمينَ ؟ قالوا : بَلى، قالوا : فَمَا أغْنَى عَنْكُم إسْلامكُم، وأنْتُمْ معنا في النَّارِ، قالوا : كَانَتْ لنَا ذُنوبٌ فأُخِذْنَا بِهَا، [فيغفر] الله لَهُمْ، بِفضْلِ رَحْمتهِ، فيَأمرُ بإخْراجِ كُلِّ مَنْ كانَ مِنْ أهْلِ القِبْلةِ في النَّار، فيَخْرجُونَ مِنْهَا، فحنيئذٍ يودُّ الذين كفروا لَوْ كَانُوا مُسْلمينَ ".
٤٢٥
فإن قيل :" رُبمَا " للتقليل، وهذا التَّمني يكثر من الكفار.
فالجواب : أنَّ " رُبمَا " يراد بها التكثير، والمقصود إظهار الترفع، والاستغناءُ عن التَّصريح بالغرض ؛ فيقولون : ربَّما نَدمتُ على ما فعلتُ، ولعلَّكَ تَندمُ على فِعلِكَ ؛ إذا كان العلمُ حَاصلاً بكثر النَّدمِ، قال :[البسيط] ٣٢٦١ـ أتْرك القِرْنَ مُصْفرًّا أنَاملهُ
.........................
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٤٢٢
وقيل : التقليل أبلغ في التهديد، والمعنى : أنَّ قليل الندم كافٍ في الزجر عن هذا العمل، فكيف كثره ؟.
وقيل : إنْ شغلهم بالعاذب لا يفزعهم للندامة فيخطر ذلك ببالهم أحياناً.
فإن قيل : إذا كان أهل القيامةِ، يتمنَّون أمثال هذه الأحوال، وجب أن يتمنى المؤمن الذي يقلُّ ثوابه عن درجةِ المؤمنِ الذي يكثر ثوابه، والمُتمنِّي لما لم يجده يكونُ في الغصَّة وتَألُّمِ القلبِ.
فالجواب : أحوالُ أهل الآخرةِ، لا تقاس بأحوال الدنيا ؛ فإن الله ـ تعالى ـ يُرضي كُلَّ واحدٍ بما هو فيه، وينزع عن قلوبهم الحسد، وطلب الزيادتِ ؛ كما قال تعالى :﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ [الحجر : ٤٧].
قوله تعالى :﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ﴾ [الحجر : ٣] الآية، أي دعْ يا محمد، الكفَّار يأخذوا حفوظهم من دنياهم، فتلك خلاقهم، ولا خلاق لهم في الآخرةِ، ﴿وَيُلْهِهِمُ﴾ يشغلهم " الأملًُ " عن الأخذ بحظِّهم من الإيمان والطَّاعة، ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ إذا [وردوا] القيامة، وذاقوا وبال [صنعهم] وهذا تهديدٌ ووعيدٌ.
وقال بعض العلماء :" ذَرْهُمْ "، تهديدٌ، و ﴿سَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾، تهديدٌ آخر، فمتى يهدأ العيش بين تهديدين ؟ ! والآية نسختها آية القتالِ.
قوله :" وذَرْهُمْ "، هذا الأمرُ لا يستعمل له ماضٍ إلا قليلاً ؛ استغناءً عنه بـ " تَرَكَ "، بل يستعمل منه المضارع نحو :﴿وَيَذَرُهُمْ﴾ [الأعراف : ١٨٦]، ومن مجيء الماضي قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ " ذَرُوا لحَبشَة ما وَذَرتْكُم "، ومثله : دَعْ ويَدَعْ، ولا يقال : ودَعَ إلا نادراً، وقد قرىء :﴿مَا وَدَّعَكَ﴾ [الضحى : ٣] مخففاً ؛ وأنشدوا :[الرمل] ٣٢٦٢أ ـ سَلْ أمِيري مَا الذي غَيَّرهُ
عَنْ وصَالِي اليَوْمَ حتَّى وَدَعهْ ؟
٤٢٦


الصفحة التالية
Icon