وقرأ العامة : بفتح النون مخففة على أنها نون الرفع ؟ ولم يذكر مفعنول التبشير، وقرأ نافع بكسرها، والأصل : تبشروني فحذف الياء مجتزئاً عنها بالكسرة.
وقد غلطه أبو حاتم، وقال : هذا يكون في الشعر اضطراراً.
وقال مكي :" وقد طعن في هذه القراءة قومٌ لبُعدِ مخرجِها في العربيَّة ؛ لأنَّ حذف النون التي تصحبُ الياء لا يحسنُ إلاَّ في الشِّعر، وإن قُدِّر حذف النون الأولى حذفت [علم] الرفع من غير ناصب، ولا جازم ؛ ولأنَّ نون الرفع كسرها قبيحٌ، إنَّما حقُّها الفتح ".
وهذا الطعن لا يتلفت إليه، لأنَّ ياء المتكلم قد كثر حذفها مجتزءاً عنها بالكسرة، وقد قرىء بذلك في قوله تعالى :﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّى ﴾ [الزمر : ٦٤] كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ـ.
ووجهه : أنَّه لما اجتمع نونان أحدهما نون الرفع، والأخرى نون الوقاية استثقل اللفظ، فمنهم من أدغم، ومنهم من حذف، ثم اختلف في المحذوفة، هل هي الأولى، أو الثانية، وتقدَّم الكلام على ذلك في سورة الأنعام [الأنعام : ٨٠].
وقرأ ابن كثير بتشديدها مكسورة، أدغم الأولى في الثانية، وحذف ياء الإضافة، والحسن : أثبت الياء مع تشديد النون، ورجح قراءة من أثبت مفعول :" يُبشِّرُون " وهو الياء.
قوله :﴿قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾ " بَشَّرناكَ "، و " بالحقِّ " متعلق بالفعل قبله، وضعف أن يكون حالاً، أي : قالوا بَشَّرنَاكَ.
ومعنى :" بالحَقِّ " هنا استفهام بمعنى التعجُّب، كأنه قيل : بأيَّ أعجوبةٍ تبشروني ؟.
فِإن قيل : كيف استبعد قدرة الله ـ تعالى ـ على خلقِ الولدِ منه في زمانِ الكبرِ ؟ وما فائدة هذا الاستفهام مع أنهم قد بينوا ما بشَّروا به ؟.
فِأجاب القاضي : بأنه أراد أن يعرف أنه ـ تعالى ـ هل يعطيه الولد مع أنه يبقيه على سفة الشيخوخة، أو يقلبه شابًّا، ثم يعطيه الولد ؟.
وسبب هذا الاستفهام : أن العادة جارية بأنه لا يحصل الولد حال الشيخوخة التامَّة، وإنما يحصل في حال الشَّبابِ.
فإن قيل : فإذا كان معنى الكلام ما ذكرتم، فلم قالوا :﴿بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ﴾ ؟.
٤٦٩
قلنا : إنهم بيَّنوا أنه ـ تعالى بشَّرهُ بالولد مع إبقائه على صفة الشَّيخوخَةِ، وقولهم ﴿بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ﴾ لايدل على أنه كان كذلك بدليل أنه صرَّح في جوابهم بما يدلُّ على أنَّه ليس كذلك فقال :﴿وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ﴾.
وأجاب غيره : بأن الإنسان إذا كان عظيم الرغبة في شيءٍ، وفاته الوقت الذي يغلب على ظنِّه حصول المراد فيه، فإذا بشِّر بعد ذلك بحصوله عظم فرحه، وسروره، ويصير ذلك الفرحُ القويُّ كالمدهش له، والمزيل لقوَّة فهمه، وذكائه، فربَّما تكلم بكلماتٍ مضطربة في ذلك الوقت.
وقيل أيضاً : إنه يستطيب تلك البشارة، فربَّما يعيد السؤال ليسمع تلك البشارة مرَّة أخرى ومرتين وأكثر طلباً للالتذاذ بسماع تلك البشارة، أو طلباً لزيادة الطمأنينة والوثوق، كقوله :﴿وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة : ٢٦٠] وقيل أيضاً : استفهم : أبأمرِ الله تبشروني، أم من عند أنفسكم، واجتهادكم.
قوله :﴿قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾ قال ابن عبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ يريد بما قضى الله تعالى.
وقوله :﴿فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ﴾ نهي لإبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ عن القنوطِ، وقد تقدَّم أنَّ النهي لإنسان عن الشَّيء لا يدل على كون المنهي فاعلاً للمنهيّ عنه، كقوله ـ جلَّ وعزَّ ـ ﴿وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ [الأحزاب : ٤٨] ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [القصص : ٧٨].
قوله :﴿وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ﴾ هذا استفهام معناه النفي، ولذلك وقع بعد الإيجاب بـ " إلاَ ".
وقرأ أبو عمرو، والكسائي :" يَقْنِطُ " بكسر عين هذا المضارع حيث وقع، والباقون بفتحها وزيد بن علي والأشهب بضمها، وفي الماضي لغتان " قنط " بكسر النون، " يَقنَطُ " بفتحها، وقنط " يقْنطُ " بكسرها، ولولا أن القراءة سنة متبعة، لكان قياس من قرأ ﴿مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ﴾ [الشورى : ٢٨] وافلتح في الماضي هو الأكثر، ولذلك أجمع عليه.
قال الفارسي : فتح النون في الماضي، وكسرها في المستقبل من أعلى اللغات، ويرجحُ قراءة " يَقْنَطُ " بالفتح قراءة أبي عمرو في بعض الروايات " فلا تكن من القنطين " كفَرِحشَ يفرح فهو فَرِحٌ.
٤٧٠