وقال الفراء :[بل يقال :] " طَرِيَ يَطْرَى طَرَاءً ممدوداً وطَراوَةً ؛ كما يقال : شَقِيَ يَشْقَى شَقاءً وشَقاوةً ".
والطَّراوَةُ ضد اليُبوسَةِ أي : غضًّا جديداً، ويقال : طَريْتُ كذا، أي : جدَّدْتهُ، ومنه الثياب المُطرَّاة، والإطْراءُ : مدحٌ تجدَّد ذكرهُ ؛ وأمَّا " طَرَأ " بالهمز، فمعناه : طَلَعَ.
قال ابن الأعرابي - رحمه الله - : لحمٌ طَريٌّ غير مهموز، وقد طَرُوَ يَطْرُو طَراوَةً.
فصل اعلم أنَّه - تعالى - لما أخرج من البحر الملح الزُّعاقِ الحيوان الذي لحمه في غاية العذوبة، علم أنَّه إنَّما حدث لا بحسبِ الطب ؛ بل بقدرة الله - تعالى - وحكمته بحيث أظهر الضد من الضدِّ.
فصل لو حلف لا يأكل اللحم فأكل لحم السَّمك، قال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : لا يحنثُ ؛ لأنَّ لحم السَّمك ليس بلحم.
وقال آخرون : يحنثُ لأنَّ الله - تعالى - نصَّ على تسميته لحماً، وليس فوق بيان الله بيانٌ.
روي أنَّ أبا حنيفة - رضي الله عنه - لما قال بهذا، وسمعه سفيان الثوري فأنكر عليه ذلك محتجاً بهذه الآية ؛ فبعث إليه أبو حنيفة رجلاً وسأله عن رجلٍ حلف لا يصلِّي على البساطِ فصلَّى على الأرضِ، هل يحنث أم لا ؟.
فقال سفيان - رحمه الله - : لا يحنثُ، فقال السائل : أليس أنَّ الله - تعالى - قال :﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطا﴾ [نوح : ١٩] قال : فعرف سفيان أنَّ ذلك بتلقين أبي حنيفة - رضي الله عنه - قاله ابن الخطيب.
وهذا ليس بقويِّ ؛ لأنَّ أقصى ما في الباب أنَّا تركنا العمل بظاهرِ القرآنِ في لفظ البساط لدليل قام، فكيف يلزمنا ترك العمل بظاهر القرآن في آية أخرى من غير دليل، والفرق بين الصورتين من وجهين : الأول : أنه لما حلف لا يصلِّي على البساط، فلو أدخلنا الأرض تحت لفظ البساطِ ؛ لزمنا أن نمتعه من الصلاة ؛ لأنه إن صلَّى على الأرض حنث، وإن صلَّى على البساط حنث، بخلاف ما إذا أدخلنا لحم السمك تحت لفظِ اللحم ؛ لأنه ليس في منعه من أكل اللَّحم على الإطلاق محذورٌ.
الثاني : أنَّا نعلم بالضرورة من عرف أهل اللغة، أنَّ وقوع اسم البساط على الأرض مجازٌ ولم نعرف أن وقوع اسم اللحم على لحم السمك مجاز وحجة أبي حنيفة - رضي الله عنه - : أنَّ الأيمان مبناها على العرف ؛ لأن الناس إذا ذكروا اللحم على الإطلاقِ، لا
٢٨
يفهم منه لحم السَّمك ؛ بدليل أنَّه إذا قال لغلامه :" اشْترِ بهذا الدِّرهمِ لحماً " فجاء بلحمِ سمكٍ استحق الإنكار.
والجواب : أنا رأيناكم في كتاب الأيمان تارة تعتبرون اللفظ، وتارة تعتبرون المعنى، وتارة تعتبرون العرف، وليس لكم ضابط ؛ بدليل أنَّه إذا قال لغلامه : اشتر بهذا الدرهم لحماً فجاء بلحم العصفور استحق الإنكار، مع أنَّكم تقولون : إنه يحنث بأكل لحم العصفور ؛ فثبت أنَّ العرف مضطربٌ، والرجوع إلى نصِّ القرآن متعين.
النوع الثاني من منافع البحر : قوله :﴿وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾ " الحليةُ : اسم لما يتحلَّى به، وأصلها الدَّلالةُ على الهيئة ؛ كالعِمَّة والخِمرة ".
" تَلْبَسُونهَا " صفة، و " مِنْهُ " يجوز فيه ما جاز في " مِنْهُ " قبل، والمراد بالحلية : اللؤلؤ والمرجان.
فصل المراد : يلبسهم لبس نسائهم ؛ لأنَّهن من جملتهم، ولأنَّ تزينهنَّ لأجلهم فكأنها زينتهم، وتمسك بعض العلماءِ في عدم وجوب الزكاةِ في الحليِّ المباح لقوله - عليه الصلاة والسلام - :" لا زَكَاةَ في الحُلِيّ ".
ويمكن أن يجاب على تقدير صحَّة الحديث : بأنَّ لفظ " الحُلِيّ " مفرد محلى بالألف واللام ؛ فيحمل على المعهود السابق، وهو المذكور في هذه الآية، فيصير تقدير الحديث : لا زكاة في اللآلئ، وحينئذٍ يسقط الاستدلال بالحديث.
النوع الثالث من منافع البحر : قوله تعالى :﴿وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ قال أهل اللغة : مَخْرُ السَّفينةِ شقُّها الماء بصدرها.
وعن الفراء : أنه صوتُ جَرْي الفلك بالرِّياحِ.
إذا عرفت هذا، فقول ابن عبَّاسٍ :" مَواخِرَ " أي : جَوارِي، إنما حسن التفسير به ؛ لأنها لا تشقُّ الماء إلاَّ إذا كانت جارية.
وقوله تعالى :﴿وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ يعني : لتركبوه للتجارة ؛ فتطلبوا الريح من فضل الله، وإذا وجدتم فضل الله تعالى وإحسانه ؛ فلعلكم تقدمون على شكره.
قال القرطبي :" امتنَّ الله على الرِّجالِ والنساء امتناناً عامًّا بما يخرج من البحر، فلا يحرم عليهم شيء منه، وإنَّما حرَّم الله - تعالى - على الرجال الذهب والحرير.
قال - صلوات الله وسلامه عليه - في الحرير والذهب :" هَذا حَرامٌ على ذُكورِ أمَّتِي حلٌّ لإنَاثهَا ".
٢٩