وأمَّا على التقدير الثاني : وهو أنَّه ليس للأرض والماء طبع يوجب الثقل والرسوب، وإنَّما - الله تعالى - أجرى عادته بجعلها كذلك، وصار الماء محيطاً بالأرض لمجردِ إجراءِ العادة، وليس ههنا طبيعة للأرض، ولا للماء، توجب حالة مخصوصة، فعلى هذا التقدير ؛ علَّة سكون الأرض : هي أنَّ الله - تعالى - خلق فيها السكون.
وعلة كونها مائدة مضطربة : هي أنَّ الله يخلق فيها الحركة، وعلى هذا، فيفسد القول بأنَّ الأرض كانت مائدة مائلة، فخلق الله تعالى الجبال وأرساها بها ؛ لتبقى ساكنة ؛ لأنَّ هذا إنما يصح إذا كانت طبيعة الأرض توجبُ الميلان، وطبيعة الجبال توجبُ الإرساء، والثبات، ونحن نتكلم على تقدير نفي الطبائع الموجبة لهذه الأحوال، فثبت أن هذا التعليل مشكلٌ على كلِّ تقديرٍ.
الثاني : أنَّ إرساء الأرض بالجبال إنَّما كان ؛ لأجل أن تبقى الأرض على وجه الماء ساكنة من غير أن تميد وتميل، وهذا إنما يعقل إذا كان الماء الذي استقرت الأرض على وجهه واقفاً.
فنقول : فما المقتضي لسكونه في ذلك الحيِّز المخصوص ؟ فإن كان طبعه المخصوص أوجب وقوفه في ذلك الحيز المعين، فلم لا نقولُ مثله في الأرض ؟ وهو أنَّ طبيعة الأرض المخصوصة أوجبت وقوفها في ذلك الحيِّز المعيَّن، وحينئذٍ يفسد القول بأنَّ الأرض إنما وقفت ؛ بسبب أنَّ الله أرساها بالجبال، وإن كان المقتضي لسكون الماء في حيِّزه المعين، هو أنَّ الله - تعالى - سكَّن الماء بقدرته في ذلك الحيز المخصوص، فلم لا نقول مثله في سكون الأرض ؟ وحينئذ يفسد هذا التعليل أيضاً.
الثالث : أنَّ الأرض كلها جسم، فبتقدير أن تميل وتضطرب على وجه البحر المحيط، فلم لم تظهر تلك الحالة للناس ؟.
فإن قيل : أليس أنَّ الأرض تحرِّكها البخارات المحتبسة في داخلها عند الزلزال، وتظهر تلك الحركات للناس، فبم تنكرون على من يقول : إنه لولا الجبال لتحركت الأرض، إلاَّ أنَّه - تعالى - لما أرساها بالجبال الثقالِ، لم تقو الريحُ على تحريكها ؟.
قلنا : تلك البخارات احتبست في [داخل] قطعة صغيرة من الأرض، فلما حصلت الحركة في تلك القطعة الصغيرة، ظهرت تلك الحركة، فظهور تلك الحركة في تلك القطعة المعينة من الأرض يجري مجرى اختلاج يحصل في عضوٍ معينٍ من بدن الإنسانِ، أما لو تحركة كلية الأرض لم تظهر تلك الحركةُ ؛ ألا ترى أنَّ الساكن في السفينة لا يحسُّ بحركة كليةِ السفينة، وإنْ كانت على أسرع الوجوه، وأقواها، فكذا ها هنا.
قال ابن الخطيب - رحمه الله - : والذي عندي ههنا أن يقال : ثبت بالدلائل اليقينية
٣٢
أنَّ الأرض كرة، وثبت أنَّ الجبال على سطح الكرة جاريةٌ مجرى خشوناتٍ تحصل على وجه هذه الكرة.
وإذا ثبت هذا فنقول : لو فرضنا أنَّ هذه الخشوناتِ ما كانت حاصلة ؛ بل كانت الأرض كرة حقيقية، خالية عن الخشونات، والتضريسات - لصارت بحيث تتحركُ بالاتسدارة بأدنى سبب ؛ لأنَّ الجرم البسيط المستدير : إمَّا ن يجب كونه متحركاً بالاستدارة ؛ وإن لم يجب ذلك عقلاً، إلاَّ أنَّها بأدنى سبب تتحركُ على [هذا الوجه]، فلما حصل على ظاهر سطح الكرة من الأرض هذه الجبال، وكانت الخشونات الواقعة على وجهِ الكرةِ، فكل واحدٍ من هذه الجبال إنَّما يتوجه بطبعه نحو مركز العالم، وتوجُّه ذلك الجبل نحو مركز العالم بثقله العظيم، وقوته الشديدة، يكون جارياً مجرى الوتد الذي يمنع كرة الأرض من الاستدارة، فكان تخليقُ هذه الجبال على وجه الأرض كالأوتادِ المغروزةِ في الكرة المانعة من الحركة المستديرة، فكانت مانعة للأرض من المَيْدِ، والمَيْلِ، والاضطراب، بمنى أنها منعت الأرض من الحركةِ المستديرة والله أعلم.
قوله :" وأنْهَاراً " عطف على " رَواسِيَ " ؛ لأنَّ الإلقاء بمعنى الخلقِ، وادَّعى ابن عطيَّة رحمه الله : أنَّه منصوب بفعلٍ مضمرٍ، أي : وجعل فيها أنهاراً.
وليس كما ذكر.
وقيل : الإلقاءُ معناه الجعلُ، قال تعالى :﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا﴾ [فصلت : ١٠] وقدره أبو البقاء :" وشقَّ فيها أنْهاراً " وهو مناسبٌ.
واعلم أنَّه ثبت في العلوم العقليَّة، أنَّ أكثر الأنهار إنما يتفجرُ منابعها في الجبال، فلهذا [السبب] لمَّا ذكر الجبال، أتبع ذكرها بتفجير العيون والأنهار.
قوله " وسُبُلاً " أي : وذلَّل، أو وجعل فيها طرقاً ؛ لتهتدوا بها في أسفاركم ؛ كقوله تعالى :﴿وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً﴾ [طه : ٥٣] إلى ما تريدون.
وقوله :﴿وَعَلامَاتٍ﴾ أي : وضع فيها علاماتٍ.
قوله :" وبِالنَّجْمِ " متعلق بـ " يَهْتَدُون " والعامة على فتح النون، وسكون الجيم، بالتوحيد، فقيل : المراد به : كوكب بعينه وهو الجَدْي أو الثُّريَّا.
وقيل : بل هو اسم جنس، وقرأ ابنُ وثَّاب : بضمهما، والحسن : بضمِّ النون فقط، وعكس بعضهم النقل عنهما.
فأمَّا قراءة الضمتين، ففيها تخريجان : أظهرهما : أنه جمع صريح ؛ لأنَّ فعلاء يجمع على فعل ؛ نحو :" سَقْقٌ وسُقُف، وزَهْر وزُهُر ".
٣٣


الصفحة التالية
Icon