لأنَّ انقياد غيره له معلَّل، بأنَّ غيره ممكنٌ لذاته، والممكن لذاته يلزم أن يكون محتاجاً إلى السبب، في طرفي الوجود، والعدمِ، فالماهيَّات يلزمها الإمكان لزوماً ذاتيًّا والإمكان يلزمه الاحتياج إلى المؤثر لزوماً ذاتيًّا، ينتج أنَّ الماهيات يلزمها الاحتياج إلى المؤثِّر لزوماً ذاتيًّا، فهذه [الماهيات] موصوفة بالانقياد لله - تعالى - اتصافاً، دائماً، واجباً، لازماً، ممتنع التَّغير.
ثم قال ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ﴾، أي : تخافون ؛ استفهام على طريق الإنكارِ، أي : أنكم بعد ما عرفتم أن إله العالم واحد، وأن كلَّ ما سواه محتاجٌ إليه، في حدوثه وبقائه، فبعد العلم بهذه الأصول، كيف يعقل أن يكون للإنسان رغبة في غير الله أو رهبة من غير الله ؟ !.
قوله تعالى :﴿وَمَا بِكُم﴾ يجوز في " مَا " وجهان : أحدهما : أن تكون موصولة، والجارُّ صلتها، وهي مبتدأ، والخبر قوله :" فَمِنَ اللهِ " والفاء زائدة في الخبر ؛ لتضمن الموصول معنى الشرط، تقديره : والذي استقرَّ بكم، و " مِنْ نِعْمَةٍ " بيانٌ للموصولِ.
وقدَّر بعضهم متعلق " بِكُمْ " خاصًّا، فقال :" ومَا حَلَّ بِكُمْ أو نَزلَ بِكُمْ ".
وليس بجيِّد ؛ إذ لا يقدر إلاَّ كوناً مطلقاً.
الثاني : أنها شرطية، وفعل الشرط بعدها محذوف، وإليه نحا الفراء، وتبعه الحوفيُّ وأبو البقاء.
قال الفرَّاء : التقدير " وما يكن بكم ".
وقد ردَّ هذا ؛ بأنَّه لا يحذف فعلٌ إلا بعد " إنْ " خاصَّة في موضعين : أحدهما : أن يكون من باب الاشتغال ؛ نحو ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ﴾ [التوبة : ٦] لأن المحذوف في حكم المذكور.
الثاني : أن تكون " إن " متلوة بـ " لا " النافية، وأن يدلَّ على الشرط ما تقدَّمه من الكلام ؛ كقوله :[الوافر] ٣٣٢٤ - فَطلِّقْهَا فَلسْتَ لهَا بِكُفءٍ
وإلاَّ يَعْلُ مَفرِقكَ الحُسَامُ
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٦٦
أي : وإلا تطلقها، فحذف ؛ لدلالة قوله " فَطلِّقُهَا " عليه.
٨١
فإن لم توجد " لا " النافية، أو كانت الأداة غير " إنْ " لم تحذف إلا ضرورة، مثال الأول قول الشاعر :[الرجز] ٣٣٢٥ - قَالتْ بَناتُ العَمِّ : يَا سَلمَى وإنْ
كَانَ فَقِيراً مُعْدماً ؛ قالتْ : وإنْ
أي : وإن كان فقيراً راضية ؛ ومثال الثاني قول الشاعر :[الرمل] ٣٣٢٦ - صَعْدَةٌ نَابتَةٌ في حَائرٍ
ايْنَمَا الرِّيحُ تُمَيِّلهَا تَمِلْ
وقول الآخر :[الخفيف] _ ٣٣٢٧ - فَمَتى وَاغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو
هُ وتُعْطَفْ عَليْهِ كَأسُ السَّاقِي
فصل لما بيَّن أنَّ الواجب على العاقل أن لا يتَّقي غير الله، بين ههنا أنه يجب عليه أن لا يشكر أحداً إلا الله تعالى ؛ لأنَّ الشكر إنما يلزم على النعمةِ، وكلُّ نعمةٍ تحصل للإنسانِ، فهي من الله تعالى، لقوله ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾.
واحتجُّوا على أن الإيمان حصل بتخليقِ الله بهذه الآية ؛ فقالوا : الإيمانُ نعمة وكلُّ نعمة فهي من الله، فالإيمان من الله تعالى، وأيضاً : فالنعمة عبارة عن كل ما ينتفع به، وأعظم الأشياء نفعاً هو الإيمان، فثبت أنَّ الإيمان نعمةٌ، وكل نعمة فهي من الله ؛ لقوله ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ وهذا اللفظ يفيد العموم، وأيضاً : فالموجود إمَّا واجب لذاته، وهو الله - تعالى - وإما ممكنٌ لذاته، والممكن لذاته، لا يوجد إلا لمرجح ؛ إن كان واجباً لذاته، كان حصول ذلك الممكن بإيجادِ الله - تعالى - وإن كان مُمْكِناً لذاته، عاد التقسيمُ الأول فيه والتسلسل ؛ وهو محال، فلا بدَّ أن ينتهي إلى إيجاد الواجب لذاته ؛ فثبت بهذا أنَّ كل نعمة فهي من الله.
واعلم أنَّ النعم : إمَّا دينيَّة أو دنيويَّة، أما النعمُ الدينية : فهي إمَّا معرفة الحقِّ لذاه، وإما معرفة الخير ؛ لأجل العمل به، وأما النعمُ الدنيوية فهي : إمَّا نفسانية، وإما بدنيةٌ، وإما خارجية، وكل واحدٍ من هذه الثلاثة جنس تحته أنواع خارجة عن الحصر والتحديد ؛ كما قال :﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم : ٣٤] انتهى.
قوله :﴿إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ﴾ قال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - : يريد الأسقام، والأمراض، والقحط، والحاجة.
٨٢
[قوله] :﴿فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ الفاء جواب " إذَا " والجُؤارُ : رفع الصَّوت ؛ قال رؤبة يصف راهباً :[المتقارب] ٣٣٢٨ - يُداوِمُ من صَلواتِ المَلِيكِ
طَوْراً سُجُوداً وطَوْراً جُؤار
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٦٦
ومنهم من قيَّده بالاستغاثة ؛ وأنشد الزمخشريُّ :[الكامل] ٣٣٢٩
- جَأَّرُ سَاعَاتِ النِّيامِ لِربِّهِ
................