قال كعب الأحبار - رضي الله عنه - : إنَّ الطير يرتفع اثنا عشر ميلاً ولا يرتفع فوق هذا، وفوق الجوِّ السُّكاك، وفوق السُّكاك السماء، و ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ﴾ تعالى، أي : في حال القبض، والبسط، و الاسطفاف ينزلهم كيف يعتبرونها في وحدانيَّته.
﴿إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ خصَّ هذه الآيات بالمؤمنين ؛ لأنَّهم هم المنتفعون بها.
فصل جسد الطائر جسم ثقيل، يمتنع بقاؤه في الجوِّ معلَّقاً بلا علاقة ولا دعامة، فوجب أن يكون الممسك له في الجوِّ هو الله - تعالى -، والظاهر أن إبقاءه في الجوِّ فعله باختياره، وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد خلق الله - تعالى -.
قال القاضي - رحمه الله - : إنَّما أضاف - تعالى - هذا الإمساك إلى نفسه ؛ لأنه - تعالى - هو الذي أعطى الآلات التي يمكن الطير بها من تلك الأفعال، فلما كان - تعالى جلَّ ذكره - هو المسبب لذلك، صحَّت هذه الإضافة.
والجواب : هذا تركٌ للظاهر من غير دليل.
قوله - تعالى - :﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً﴾ الآية وهذا نوعٌ آخر من دلائل التوحيد.
قوله :" سَكَناً " يجوز أن يكون مفعولاً أولاً، على أنَّ الجعل تصيير والمفعول الثاني أحد الجارين قبله، ويجوز أن يكون الجعل بمعنى الخلقِ فيتعدَّى لواحدٍ، وإنَّما وحد السكن ؛ لأنه بمعنى ما يسكنون فيه، قاله أبو البقاء.
وقد يقال : إنه في الأصل مصدر، وإليه ذهب ابن عطية، فتوحيده واضح إلا أن أبا حيَّان منع كون مصدراً ولم يذكر وجه المنع، وكأنه اعتمد على قول أهل اللغة : إن السكن " فَعْل " بمعنى " مَفْعُول " : كالقَبْضِ والنقْضِ بمعنى المَنْقُوض والمَقْبُوض ؛ وأنشد الفراء فقال :[البسيط] ٣٣٥٢ - جَاءَ الشِّتاءُ ولمَّا أتَّخِذْ سَكَناً
يَا وَيْحَ نَفْسِي مِنْ حَفْرِ القَرامِيصِ
والسَّكنُ : ما سكنتَ إليه وما سَكنْتَ فيه، قال الزمخشري :" السَّكن ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلفٍ ".
١٣١
واعلم أنَّ البيوت الَّتي يسكن فيها الإنسان على قسمين : أحدهما : البيوت المتَّخذة من الحجر والمدر، وهي المرادة من قوله :﴿جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً﴾ وهذا القسم لا يمكن نقله بل الإنسان ينتقل إليه.
والثاني : البيوت المتَّخذة من القباب والخيام والفساطيط، وهي المرادة بقوله :﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا﴾ وهذا القسم يمكن نقله مع الإنسان.
قوله :﴿يَوْمَ ظَعْنِكُمْ﴾ قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو بفتح العين، والباقون بإسكانها، وهما لغتان كالنَّهْر والنَّهَر.
وزعم بعضهم أن الأصل الفتح، والسكون تخفيف لأجل حرف الحلق ؛ كالشَّعْر والشعَر ".
والظَّعنُ مصدر ظعن، أي : ارتحل، والظَّعينةُ : الهوجد فيه المرأة وإلا فهو محمل، ثم كثر حتى قيل للمرأة : ظعينة.
فصل والمعنى : جعل لكم من جلودِ الأنعام بيوتاً، يعني : الخِيَام، والقِبَاب والأخبية، والفَساطِيط من الأنطاع والأدم : ، " تَسْتَخِفُّونَها " أي : يخف عليكم حملها ﴿يَوْمَ ظَعْنِكُمْ﴾ رحلتكم في سفركم، والظَّعْنُ : سير [البادية] لنجعة أو لحضور ماء أو طلب مرتع، والظَّعْنُ أيضاً : الهَوْدَج ؛ قال :[الهزج] ٣٣٥٣ - ألاَ هَلْ هَاجكَ الأظْعَانُ إذ بَانُوا
وإذْ جَادتْ بِوشْكِ البَيْنِ غِرْبَانُ
﴿
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ١٢٧
وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ﴾
في بلدكم لا يثقل عليكم في الحالتين، و " مِنْ " راجعة إلى الحالتين ﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ﴾ يعني : أصواف الضَّأن، وأوبار الإبل، وأشعار المعز، والكنايات راجعة إلى الأنعام، وذكر الأصواف والأوبار ولم يذكر القطن والكتاب ؛ لأنهما لم يكونا ببلاد العرب.
قوله :" أثَاثاً " فيه وجهان : أحدهما : أنه منصوب عطفاً على " بُيُوتًا " أي : وجعل لكم من أصوافها أثاثاً، وعلى هذا يكون قد عطف مجروراً على مجرورٍ، ومنصوباً على منصوب، ولا فصل هنا بين حرف العطف والمعطوف حينئذ.
وقال أبو البقاء - رحمه الله - :" وقد فصل بينه وبين حرف العطف بالجار
١٣٢
والمجرور، وهو قوله عز وجل :﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا﴾ وهو ليس بفصل مستقبح كما زعم في الإيضاح ؛ لأنَّ الجارَّ والمجرور مفعول، و تقديم مفعول على مفعول قياس ".
وفيه نظر ؛ لأنه عطف مجروراً على مثله، ومنصوباً على مثله.
والثاني : أنه منصوب على الحال، ويكون قد عطف مجروراً على مثله تقديره : وجعل لكم من جلود الأنعام، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها بيوتاً حال كونها أثاثاً، ففصل لالمفعول بين المتعاطفين، وليس المعنى على هذا، إنما هو على الأول.
والأثاث : متاع البيت إذا كان كثيراً، وأصله : مِنْ أثَّ الشعرُ والنَّباتُ ؛ إذا كشفا وتكاثرا ؛ قال امرؤ القيس :[الطويل] ٣٣٥٤ - وفَرْعٍ يُغَشِّي المَتْنَ أسْودَ فَاحمٍ
أثِيثٍ كَقِنْوِ النَّخلَةِ المُتعَثْكِلِ


الصفحة التالية
Icon