الإنسان إذا خطر بباله الحر، خطر بباله البرد أيضاً وكذا القول في النُّور والظلمة، والسَّواد والبياض.
الثالث : قال الزجاج :" وما وقَى من الحرِّ وقى من البرد، فكان ذكر أحدهما مغنياً عن الآخر ".
فإن قيل : هذا بالضدِّ أولى ؛ لأن دفع الحرِّ يكفي فيه السَّرابيل التي هي القُمص دون تكلُّف زيادة، أما البرد فإنَّه لا يندفع إلا بزيادة تكلُّف.
فالجواب : أن القميص الواحد لمَّا كان دافعاً للحر، كانت السَّرابيل التي هي الجمع دافعة للبرد.
قوله :﴿كَذَلِكَ يُتِمُّ﴾، أي : مثل ذلك الإتمام السابق، ﴿يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ في المستقبل.
وقرأ ابنُ عباس - رضي الله عنهما - :" تَتِمُّ " بفتح التاء الأولى، " نِعْمَتُهُ " بالرفع على الفاعلية، وقرأ أيضاً :" نِعَمَهُ " جمع نعمة مضافة لضمير الله - تعالى -، وقرأ أيضاً :" لعلكم تَسْلَمُونَ " بفتح التاء واللام مضارع سَلِمَ من السلامة، وهو مناسب لقوله :" تَقِيكُم بَأسكُمْ " ؛ فإنَّ المراد به الدُّروع الملبوسة في الحبب، أو تؤمنوا فتسلموا من عذاب الله.
قوله :" فإنْ تَولَّوا " يجوز أن يكون ماضياً، ويكون التفاتاً من الخطاب المتقدِّم، وأن يكون مضارعاً، ولأصل : تتولَّوا، قحذف نحو :" تَنزَّلُ وتَذَّكرُونَ " ولا التفات على هذا، بل هو جارٍ على الخطاب السَّابق.
ومعنى الكلام : فإن أعرضوا، فلا يلحقك في ذلك عتب ولا تقصير، وليس عليك إلاَّ ما فعلت من التَّبليغ التَّام.
قوله :﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ﴾ هو جواب الشَّرط، وفي الحقيقة جواب لشرط محذوف، أي : فأنت معذور، وأتى ذلك على إقامة السَّبب مقام المسبب ؛ وذلك لأن تبليغه سبب في عذره، فأقيم السَّبب مقام المسبب، ثمَّ ذمَّهم بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، وذلك نهاية في كفران النِّعمة، وجيء بـ طثُمَّ " هنا للدَّلالة أن إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة ؛ لأنَّ من عرف النِّعمة حقُّه أن يعترف لا أن ينكر، وفي المراد بالنِّعمة وجوه : قال القاضي : هي جميع ما ذكر الله تعالى في الآيات المتقدِّمة، ومعنى إنكارهم :
١٣٥
أنهم ما أفردوه - تعالى - بالشُّكر والعبادة، بل شكروا غيره وقالوا : إنما حصلت هذه النعمة بشفاعة الأصنام.
وقيل : المراد بالنِّعمة هنا : نُبوَّة محمد ﷺ عرفوا أنَّها حق ثمَّ أنكروها، ونبوته نعمة عظيمة ؛ كما قال - تعالى - :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء : ١٠٧].
وقيل :﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾، أي : لا يستعملونها في طلب رضوان الله، ثم قال جل ذكره :﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ﴾.
فإن قيل : ما معنى قوله :﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ﴾ مع أنَّهم كلهم كافرون ؟.
فالجواب من وجوه : الأول : إنما قال - عز وجل - ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ﴾ ؛ لأنه كان فيهم من لم تقم عليه الحجَّة ؛ كالصَّبي وناقص العقل، فأراد بالأكثر ؛ البالغين الأصحاء.
والثاني : أن المراد بالكافر : الجاحد المعاند، فقال :" وأكْثَرهُم " ؛ لأنه كان فيهم من لم يكن معانداً، بل جاهلاً بصدق الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ولم يظهر له كونه نبيًّا حقًّا من عند الله.
الثالث : ذكر الأكثر وأراد الجميع ؛ لأن أكثر الشيء، يقوم مقام الكل ؛ كقوله :﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [لقمان : ٢٥].
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ١٢٧
قوله :﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً﴾ الآية لما بيَّن أنهم عرفوا نعمة الله ثمَّ أنكروها، وذكر أن أكثرهم كافرون أتبعه بذكر الوعيد ؛ فذكر حال يوم القيامة.
قوله :﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ﴾ فيه أوجه : أحدها : منصوب بإضمار " اذْكُرْ ".
الثاني : بإضمار " خوفهم ".
الثالث : تقديره : ويوم نبعث، وقعوا في أمر عظيم.
الرابع : أنه معطوف على ظرف محذوف، أي : ينكرونها اليوم ويوم نبعث.
والمراد بأولئك الشهداء : الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم ؛ كما قال - سبحانه
١٣٦