وتعالى - :﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤلاء شَهِيداً﴾ [النساء : ٤١].
قوله :﴿ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ قال الزمخشري :" فإن قلت : ما معنى " ثُمَّ " هذه ؟ قلت : معناه : أنهم يُمْنَعُونَ بعد شهادة الأنبياء عليه السلام بما هو أطمّ منه، وهو أنهم يمنعون الكلام، فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ولا [إدلاء] حجة :.
انتهى.
ومفعول الإذن محذوف، أي : لا يؤذن لهم في الكلام ؛ كما قال - تعالى - :﴿وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات : ٣٦] أي : في الرُّجوع إلى الدنيا.
وقيل : لا يؤذنُ لهم في الكلام أصلاً، ﴿وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ أي : لا تزال عتابهم وهي ما يعتبون عليها ويلامون ؛ يقال : اسْتَعْتَبْتُ فلاناً بمعنى : أعْتَبْتُه، أي : أزلت عُتْبَاه، و " اسْتَفْعَل " بمعنى :" أفْعَلَ " غير مستنكرٍ، قالوا : اسْتدنَيتُ فلاناً وأدْنَيتهُ بمعنًى واحد.
وقيل : السِّين على بابها من الطَّلب، ومعناه : أنهم لا يسألون أن يرجعوا عما كانوا عليه في الدُّنيا، فهذا استعتاب معناه طلب عتابهم.
وقال الزمخشري " ولا هم يسترضون، أي : لا يقال لهم : أرضوا ربكم ؛ لأن الآخرة ليست بدار عمل ".
وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله - تعالى - في سورة حم السجدة ؛ لأنه أليق لاختلاف القراء فيه.
ثم إنَّه - تعالى - أكَّد هذا الوعيد فقال :﴿وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ﴾ أي : أن هؤلاء المشركين إذا رأوا العذاب ووصلوا إليه، فعند ذلك ﴿فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ﴾ ولا يؤخِّرون ولا يمهلون ؛ لأن التوبة هناك غير موجودة.
قوله :" فَلا يُخَفَّفُ " هذه الفاء وما حيِّزها جواب " إذَا "، ولا بدَّ من إضمار مبتدأ قبل هذه الفاء، أي : فهو لا يخفف ؛ لأن جواب " إذا " متى كان مضارعاً، لم يحتج إلى فاء سواء كان موجباً ؛ كقوله - تعالى - :﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ﴾ [الحج : ٧٢] أم منفيًّا ؛ نحو :" إذَا جَاءَ زَيْدٌ لا يكرمك ".
قوله تعالى :﴿وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ﴾ وهذا من بقيَّة وعيد المشركين، وفي الشركاء قولان : الأول : أن الله - تعالى - : يبعث الأصنام فتكذِّب المشركين، ويشاهدونها في غاية الذُّلِّ والحقارة، وكل ذلك مما يوجب زيادة الغمِّ والحسرة في قلوبهم.
والثاني : أن المراد بالشركاء : الشَّياطين الذين دعوا الكفَّار إلى الكفر ؛ قاله الحسن - رضي الله عنه -، وإنَّما ذهب إلى هذا القول ؛ - لأنه - تعالى - حكى عن الشركاء أنَّهم كذَّبوا الكفار، والأصنام جمادات فلا يصحُّ منهم هذا القول.
وهذا بعيد ؛ لأن الله - تعالى - قادرٌ على خلق الحياة في الأصنام وعلى خلق العقل والنُّطق فيها.
١٣٧
قوله :﴿وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ﴾ العامة على فتح السين واللام.
وقرأ أبو عمرو في رواية بسكون اللام، ومجاهد بضمِّ السين واللام، وكأنَّه جمع سلام ؛ نحو : قُذال وقُذُل، والسَّلَمُ واحد، وقد تقدَّم الكلام عليهما في سورة النساء.
فصل والمعنى : أن المشركين إذا رأوا تلك الشُّركاء، ﴿قَالُواْ رَبَّنَا هَـاؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِك﴾، وفائدة هذا القول من وجهين : الأول : قال أبو مسلم - رحمه الله - :" مقصود المشركين إحالةُ الذَّنب على الأصنام ؛ ظنًّا منهم أن ذلك ينجيهم من عذاب الله، أو ينقص من عذابهم، عند هذا تكذِّبهم تلك الأصنام ".
قال القاضي :" هذا بعيدٌ ؛ لأن الكفار يعلمون علماً ضروريًّا في الآخرة أنَّ العذاب ينزل بهم، ولا ينفعهم فدية ولا شفاعة ".
والثاني : أن المشركين يقولون هذا الكلام تعجُّباً من حضور تلك الأصنام، مع أنه لا ذنب لها، واعترافاً بأنَّهم كانوا مخطئين في عبادتها.
ثم حكى - تعالى - انَّ الأصنام يكذبونهم، فقال :﴿فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ﴾، والمعنى : أنه - تعالى - يخلق الحياة والعقل والنطق في تلك الأصنام فيلقوا إليهم، أي : يقولون لهم :" إنَّكُم لكَاذِبُونَ ".
فإن قيل : إن المشركين لم يقولوا، بل أشاروا إلى اًنام، فقالوا : هؤلاء شركاؤنا الذين كنَّا ندعو من دونك، وقد كانوا صادقين في كلِّ ذلك، فكيف قالت الأصنام طإنَّكم لكَاذبُونَ " ؟.
فالجواب من وجوه : أصحها : أن المراد من قولهم :" هؤلاء شُركاؤنَا "، أي : أنَّ هؤلاء هم الَّذين كنَّا نقول : إنهم شركاء الله في المعبودية، فالأصنام كذَّبوهم في إثبات هذه الشركة.
وقيل : المراد : إنَّهم لكاذبون في قولهم : إنَّا نستحقُّ العذاب بدليل قوله - تعالى - ﴿كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ﴾ [مريم : ٨٢].
ثم قال :﴿وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ﴾ قال الكلبي : استسلم العابد والمعبود، وأقرُّوا لله بالرُّبوبية وبالبراءة عن الشركاء والأنداد.
١٣٨


الصفحة التالية
Icon