وقيل : استسلم المشركون يومئذ إلى الله تعالى وإنفاذ الحكمة فيهم ولم تغنِ عنهم آلهتهم شيئاً، ﴿وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ : زال عنهم ما كانوا يفترون من أنَّها تشفع لهم عند الله، وقيل : ذهب ما زيَّن لهم الشيطان من أن لله صاحبة وشريكاً.
وقوله :﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ يجوز أن يكون مبتدأ، والخبر " زِدنَاهُم " وهو واضح، وجوَّز ابن عطية أن يكون " الَّذينَ كَفروا " بدلاً من فاعل " يَفْترُونَ "، ويكون " زِدْناهُم " مستأنفاً.
ويجوز أن يكون " الَّذينَ كَفرُوا " نصباً على الذَّمِّ أو رفعاً عليه، فيضمر النَّاصب والمبتدأ وجوباً.
فصل لما ذكر وعيد الذين كفروا، أتبعه بـ " وعيد " من ضمَّ إلى كفره صدَّ الغير عن سبيل الله، وهو منعهم عن طريق الحقِّ.
وقيل : صدهم عن المسجد الحرام، ﴿زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ﴾ ؛ لأنهم زادوا على كفرهم صَدَّ الغير عن الإيمان.
قال - عليه الصلاة والسلام - :" مَنْ سَنَّ سُنَّة سَيِّئةً فعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ من عَمِلَ بِهَا ".
" قال ابن عباس - رضي الله عنه - [ومقاتل] :" المراد بتلك الزيادة خمسة أنهار من صفر مذابٍ ؛ تسيل من تحت العرش، يعذَّبون بها ثلاثة بالليل واثنان بالنَّهار ".
وقال سعيد بن جبير : زدناهم عذاباً بحيّات كالبخت، وعقارب كالبغال تلسعهم، وقيل : يخرجون من حرِّ النار إلى زمهرير.
وقيل : يضعَّف لهم العذاب بما كانوا يفسدون، أي : بذلك الصَّد.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ١٣٦
قوله تعالى :﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ الآية.
١٣٩
وهذا نوع آخر من التَّهديد، والأمة عبارة عن القرن والجماعة، والمراد أن كلَّ نبيٍّ شاهدٌ على أمَّته ؛ لأن الأنبياء كانت تبعث إلى الأمم من أنفسهم لا من غيرهم.
وقيل : المراد أن كل جمع وقرن يحصل في الدنيا، فلا بدَّ وأن يحصل فيهم واحداً يكون شهيداً عليهم، أمَّا الشَّهيد على الذين كانوا في عصر الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - فهو الرسول ؛ لقوله - تعالى - :﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ [البقرة : ١٤٣] وقوله :﴿وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـاؤُلآءِ﴾.
وقال الأصم : المراد بالشَّهيد هو أنَّه - تعالى - ينطق عشرة من أعضاء الإنسان تشهد عليه، وهي : الأذنان، والعينان، والرجلان، واليدان، والجلد واللسان.
قال : والدَّليل عليه أنه قال في صفة الشّهيد أنَّه من أنفسهم، وهذه الأعضاء لا شكَّ أنها من أنفسهم.
وأجاب القاضي عنه : بأنه - تعالى - قال :﴿شَهِيداً عَلَيْهِمْ﴾، أي : على الأمَّة، فيجب أن يكون غيرهم، وأيضاً قال :" مِنْ كل أمةٍ " فيجب أن يكون ذلك الشَّهيد من الأمَّة، وآحاد الأعضاء لا يصح وصفها أنها من الأمة، وأما حمل الشهداء على الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - فبعيد ؛ لأن كونهم مبعوثين إلى الخلق أمر معلوم بالضَّرورة، فلا فائدة في حمل هذه الآية عليه.
قوله :﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً﴾ يجوز أن يكون " تِبْيَاناً " في موضع الحال، ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله، وهو مصدر ولم يجئ من المصادر على هذه الزِّنة إلا لفظتان : هذا والتِّلقاء، وفي الأسماء كثيراً، نحو " التِّمساح والتِّمثال " وأما المصادر فقياسها فتح الأول ؛ دلالة على التكثير كـ " التَّطوافِ " و " التَّجْوالِ ".
وقال ابن عطية : إنَّ " التِّبْيَان " اسمٌ وليس بمصدر والنحويُّون على خلافه.
قال شهاب الدين - رحمه الله - : وقد رَوَى الواحديُّ بإسناده، عن الزجاج أنه قال :" التِّبيان " اسمٌ في ممعنى البيان.
وجه تعلُّق هذا الكلام بما قبله : أنه - تعالى - قال :﴿وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـاؤُلآءِ﴾ أي : أنه أزاح علتهم فميا كلِّفوا، فلا حجَّة لهم ولا معذرة.
وقال نفاةُ القياس : دلَّت هذه الآية على أنَّ القرآن تبْيَانٌ لكل شيءٍ، والعلوم إمَّا دينية، أو غير دينية، فالتي ليست دينية، لا تعلُّق لها بهذه الآية ؛ لأنَّا نعلمُ بالضرورة أنه تعالى إنما مدح القرآن بكونه مشتملاً على علوم الدين، وأمَّا غير ذلك، فلا التفاتَ إليه، وأما علومُ الدِّين : فإمَّا الأصول، وإما الفروع.
١٤٠


الصفحة التالية
Icon