وإظهار الرِّياسة والتكبُّر، وذلك هو المراد من البغي ؛ فإنه لا معنى للبغي إلا التَّطاول على الناس والترفُّع عليهم.
قوله :" يَعِظُكمْ " يجوز أن يكون مستأنفاً في قوَّة التعليل للأمر بما تقدم، أي : أن الوعظ سبب في أمره لكم بذلك، وجوَّز أبو البقاء أن يكون حالاً من الضمير في " يَنْهَى ".
وفي تخصيصه الحال بهذا الفاعل فقط نظر ؛ إذ يظهر جعله حالاً من فاعل " يَأمرُ " أيضاً، بل أولى ؛ فإنَّ الوعظ يكون بالأوامر والنَّواهي، فلا خصوصية له بالنَّهي.
ثم قال تعالى :﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ قال الكعبي : دلَّت الآية على أنَّه - تعالى - لا يخلق الجور والفحشاء من وجوه : الأول : أنه - تعالى - كيف ينهاهم عما يخترعه فيهم، وكيف ينهى ويريد تحصيله فيهم ؟ ولو كان الأمر ما قالوه، لكان كأنَّه - تعالى - قال : إنَّما يأمركم بخلاف ما خلقه فيكم، وينهاكم عن أفعال خلقها فيكم، وذلك باطلٌ في بديهة العقل.
الثاني : أنه - تعالى - أمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنهكر والبغي، فلو أنَّه - تعالى - أمر بتلك الثلاثة، ثم إنه - تعالى - ما فعلها، لدخل تحت قوله - تعالى - :﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة : ٤٤]، وقوله - عز وجل - :﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف : ٢، ٣].
الثالث : أن قوله - تعالى - :﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ ليس المراد منه الترجِّي والتَّمني ؛ فإن ذلك محالٌ على الله - تعالى -، فوجب أن يكون معناه : أنه - تعالى - يعظكم لإرادة أن يذكروا طاعته، وذلك يدلُّ على أنه يريد الإيمان من الكلِّ.
الرابع : أنه - تعالى - لو صرَّح وقال : إن الله يأمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، ولكنَّه يمنع منه ويصدُّ عنه، ولا يمكن العبد منه، ثم قال - تعالى - :﴿وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾، ولكنَّه يوجد كل هذه الثلاثة في العبد شاء أم أبى، وأراده منه ومنعه من تركه، ومن الاحتراز عنه ؛ لحكم كل واحدٍ عليه بالرَّكاكة وفساد النظم والتركيب، وذلك يدلُّ على كونه - تعالى - منزَّهاً عن فعل القبائح.
والمعتمد في الجواب مسألة العلم والدَّاعي.
فصل اتَّفق المتكلِّمون من أهل السنَّة ومن المعتزلة على أن تذكُّر الأشياء من فعل الله - تعالى - لا من فعل العبد ؛ لأنَّ التذكُّر عبارة عن طلب المتذكر، فحال الطَّلب إمَّا أن يكون لديه شعور أو لا يكون ؛ فإن كان له شعور به، فذلك الذِّكر حاصلٌ، والحاصل لا يطلب تحصيله، وإن لم يكن له به شعور، فكيف يطلبه بعينه ؛ لأنَّ توجيه الطلب إليه بعينه حال ما لا يكون بعينه متصوراً محال.
١٤٦