قوله - تعالى - ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ﴾ الآية لما قال - تعالى - :﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [النحل : ٩٧]، أرشد إلى العمل الذي به يخلِّص أعماله من الوساوس، فقال - جل ذكره - :﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ﴾ أي : فإذا أردت، فأضمر الإرادة.
قال الزمخشري :" لأنَّ الفعل يوجد عند القصد والإرادة من غير فاصل، على حسبه، فكان منه بسببٍ قويٍّ وملابسة ظاهرة ".
وقال ابن عطيَّة :" " فإذَا " وصلة بين الكلامين، والعرب تستعملها في هذا، وتقدير الآية : فإذا أخذت في قراءة القرآن، فاستعذ ".
وهذا مذهب الجمهور من القرَّاء والعلماء، وقد أخذ بظاهر الآية - فاستعاذ بعد أن قرأ - من الصحابة - أبو هريرة - رضي الله عنه -، ومن الأئمة : مالكوابن سيرين وداود، ومن القرَّاء حمزة - رضي الله عنهم ؛ قالوا : لأنَّ الفاء في قوله :﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ للتعقيب، والفائدة فيه : أنه إذا قرأ القرآن يستحقُّ به ثواباً عظيماً، فإذا لم يأت بالاستعاذة، وقعت الوسوسة في قلبه، وذلك الوسواس يحبط ثواب القراءة، فإذا استعاذ بعد القراءة، اندفعت تلك الوساوس، وبقي الثَّواب مصوناً عن الانحطاط.
وذهب الأكثرون : إلى أنَّ الاستعاذة مقدمة على القراءة، والمعنى : إذا أردت أن تقرأ القرآن، فاستعذ ؛ كقوله : إذَا أكلت، فقل : بِسْم الله، وإذا سافرت، فتأهَّب، وقوله - تعالى - ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة : ٦]، وأيضاً : قد ثبت أن الشَّيطان ألقى الوسوسة في أثناء قراءة الرَّسول - ﷺ - ؛ بدليل قوله - عز وجل - :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحج : ٥٢]، ومن الظاهر أنه - تعالى - إنما أمر الرَّسول - صلوات الله وسلامه عليه - بالاستعاذة عند القراءة ؛ لدفع تلك الوساوس، وهذا المقصود إنَّما يحصل عند تقديم الاستعاذة.
وذهب عطاء إلى أنَّ الاستعاذة واجبة عند قراءةِ القرآن، كانت في الصَّلاة أو غيرها.
ولا خلاف بين العلماء في أن التَّعوذ قبل القراءة في الصَّلاة أوكد.
واعلم أنَّ هذا الخطاب للرسول - صلوات الله وسلامه عليه -، والمراد منه الكلُّ ؛ لأن الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - إذا كان محتاجاً للاستعاذة عند القراءةِ، فغيره أولى، والمراد بالشيطان في هذه الآية : قيل : إبليس، وقيل : الجنس ؛ لأنَّ جميع المردة لهم حظٌّ في الوسوسة.
١٥٥
ولما أمر رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - بالاستعاذة من الشيطان، وكان ذلك يوهم أنَّ للشيطان قدرة على التصرُّف في أبدان النَّاس، فأزال الله تعالى هذا الوهم وبيَّن أنه لا قدرة له ألبتَّة على الوسوسة ؛ فقال - تعالى - :﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ ويظهر من هذا أنَّ الاستعاذة إنما تفيد إذا حضر في قلب الإنسان كونه ضعيفاً، وأنَّه لا يمكنه التحفُّظ عن وسوسة الشيطان إلا بعصمة الله تعالى، ولا قوَّة على طاعة الله إلا بتوفيق الله، والتَّفويض الحاصل على هذا الوجه هو المراد من قوله :﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾، والاستعاذة بالله هي الاعتصام به.
ثم قال :﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾ قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - :" يطيعونه، يقال : توليته، أي : أطعته، وتولَّيت عنه، أي : أعرضت عنه.
قوله :﴿وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ الضمير في " بِهِ " الظاهر عوده على الشيطان، لتتحد الضمائر، و المعنى : والذين هم به مشركون بسببه ؛ كما تقول للرجل إذا تكلَّم بكلمة مؤدِّية إلى الكفر : كفرت بهذه الكلمة، أي : من أجلها ؛ فكذلك قوله :﴿وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ والمعنى : من أجل حمله إيَّاهم على الشِّرك صاروا مشركين.
وقيل : والذين هم بإشراكهم إبليس مشركون بالله، ويجوز أن يعود على " ربِّهِمْ ".
قوله :﴿وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ﴾ والتَّبدِيل : رفع الشيء مع وضع غيره مكانه، وهو هنا النسخ.
قوله :﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ﴾ في هذه الجملة وجهان : أظهرهما : أنها اعتراضٌ بين الشرط وجوابه.
والثاني : أنَّها حاليَّة ؛ فعلى الأول يكون المعنى : والله أعلم بما ينزِّل من الناسخ والمنسوخ، والتغليظ والتخفيف، أي : هو أعلم بجميع ذلك في مصالح العباد، وهذا توبيخٌ للكفار على قولهم :" إنَّما أنْتَ مُفْتَرٍ "، أي : إذا كان هو أعلم بما ينزِّل، فما بالهم ينسبون محمداً إلى الافتراء ؛ لأجل التَّبديل والنسخ، وقوله :﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي : لا يعلمون حقيقة القرآن، وفائدة النسخ والتبديل، وأن ذلك لمصالح العباد، وقولهم :" إنَّما أنْتَ مُفتَرٍ " نسبوا إليه ﷺ الافتراء بأنواع من المبالغات وهي الحصر
١٥٦


الصفحة التالية
Icon