والخطاب، واسم الفاعل الدال على الثُّبوت والاستقرار، ومفعول " لا يعلمون " محذوف للعلم به، أي : لا يعلمون أنَّ في نسخ الشَّرائع وبعض القرآن حكماً بالغة.
قوله :﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ﴾ تقدَّم تفسيره في البقرة.
قال الزمخشري رحمه الله :" رُوحُ القدس : جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - أضيف إلى القدس وهو الطُّهْر ؛ كما تقول : حاتم الجُودِ، وزيد الخَيْرِ، والمراد : الرُّوح المقدس، وحاتم الدواد، وزيد الخيِّر ".
و " مِنْ " في قوله :" مِن رَّبِّكَ " صلة للقرآن، أي أن جبريل نزَّل القرآن من ربك ؛ ليثبِّت الذين آمنوا، أي : ليبلوهم بالنسخ، حتَّى إذا قالوا فيه : هو الحقُّ من ربِّنا، حكم لهم بثبات القدم في الدِّين، وصحَّة اليقين بأن الله حكيم فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب.
قوله تعالى :﴿وَهُدًى وَبُشْرَى ﴾ يجوز أن يكون عطفاً على محلِّ " لِيُثبِّتَ " فينصبان، أو على لفظه باعتبار المصدر المؤوَّل ؛ فيجران، والتقدير : تثبيتاً لهم، وإرشاداً وبشارة، وقد تقدم كلام الزمخشري في نظيرهما وما ردَّ به أبو حيَّان عليه وجوابه.
وجوَّز أبو البقاء ارتفاعهما خبر مبتدأ محذوف، أي : وهو هدى، والجملة حال وقرئ :" لِيُثبتَ " مخففاً من " أثْبَت ".
فصل قد تقدَّم أن أبا مسلم الأصفهاني ينكر النسخ في هذه الشريعة، فقال : المراد ههنا : وإذا بدَّلنا آية مكان آية، أي : في الكتب المتقدمة ؛ مثل آية تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الككعبة، قال المشركون : أنت مفترٍ في هذا التبديل، وأكثر المفسرين على خلافه، وقالوا : إن النسخ واقعٌ في هذه الشريعة.
فصل قال الشافعي - رضي الله عنه - : القرآن لا ينسخ بالسنة ؛ لقوله - تعالى - :﴿وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ﴾ وهذا يقتضي أن الآية لا تنسخ إلا بآية أخرى، وهذا ضعيف ؛ لأن هذه الآية تدلُّ على أنَّه - تعالى - يبدِّل آية بآيةٍ أخرى، ولا دلالة فيها على أنه - تعالى - لا يبدِّل آية إلا بآيةٍ، وأيضاً : فجبريل - عليه السلام - قد ينزل بالسنة كما ينزل بالآية.
قوله - تعالى - :﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ الآية هذه حكاية شبهة أخرى من شبهات منكري نبوَّة محمد ﷺ ؛ وذلك لأنهم ك انوا يقولون : إن محمَّداً - صلوات الله وسلامه عليه - إنَّما يذكر هذه القصص، وهذه الكلمات إنما يستفيدها من إنسان آخر ويتعلمُّها منه.
١٥٧
واختلفوا في ذلك البشر : فقال ابن عباس - رضي الله عنه - : كان رسول الله ﷺ يعلِّم فتى بمكة اسمه " بلْعَام "، وكان نصرانيًّا أعجمي اللسان يقال له : أبو ميسرة، وكان يتكلم بالروميَّة، فكان المشركون يرون رسول الله ﷺ يدخل عليه ويخرج، فكانوا يقولون : إنما يعلمه " بلعام ".
وقا لعكرمة : كان رسول الله ﷺ - يقرئ غلاماً لبني المغيرة، يقال له :" يَعِيش "، وكان يقرأ الكتب، فقالت قريش : إنما يعلمه " يَعِيش ".
وقال الفراء : كان اسمه " عائش " مملوك لحويطب بن عبد العزى، وكان قد أسلم وحسن إسلامه، وكان أجميًّا، وقيل : اسمه " عدَّاس " غلام " عتبة بن ربيعة ".
وقال ابن إسحاق : كان رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - كثيراً ما يجلس عند المروة إلى غلام روميٍّ نصراني عبد لبني الحضرمي، يقال له :" جَبْر "، وكان يقرأ الكتب، وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي : كان لنا عبدان من أهل عين التَّمر، يقال لهما : يسار ويكنى : أبا فكيهة، وجبر، وكانا يصنعان السيوف بمكَّة، وكانا يقرآن التوراة والإنجيل، فربما مر بهما النبي ﷺ وهما يقرآن، فيقف ويسمع.
قال الضحاك : وكان - صلوات الله وسلامه عليه - إذا آذاه الكفَّار يقعد إليهما، فيستروح بكلامهما، فقال المشركون : إنما يتعلَّم محمد منهما فنزلت الآية.
وقيل : سلمان الفارسي رضي الله عنه، فكذبهم الله - تعالى - بقوله :﴿لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾.
قوله تعالى :﴿لِّسَانُ الَّذِي﴾ العامة على إضافة " لِسانُ " إلى ما بعده، و المراد باللسان هنا : القرآن، والعرب تقول للغة : لسان.
وقرأ الحسن - رضي الله عنه - : اللِّسان معرفاً بـ " أل "، و " الَّذِي " نعت له وفي هذه الجملة وجهان : أحدهما : لا محلَّ لها ؛ لاستئنافها، قاله الزمخشري.
والثاني : أنَّها حال من فاعل " يَقُولونَ "، أي : يقولون ذلك والحال هذه ؛ أي : علمهم بأعجميَّة هذا البشر، وإبانة عربيَّة هذا القرآن كان ينبغي أن يمنعهم من تلك
١٥٨