أي : وأجْتنِبُ الشَّر، وتقول :" أمَرتهُ، فلمْ يُحْسِنْ " فليس المعنى : أمرته بعدم الإحسان، بل المعنى : أمرته بالإحسانِ، فلم يحسِن، والآية من هذا القبيل، يستدلُّ على حذف النَّقيضِ بنقيضه، كما يستدلُّ على حذلف النظير بنظيره، وكذلك :" أمَرْتهُ، فأسَاءَ إليَّ " ليس المعنى : أمَرْتهُ بالإساءة، بل أمرته بالإحسان، وقوله :" ولا يَلزَمُ هذا قولهم : أمَرْتهُ فعَصانِي " نقول : بل يلزمُ، وقوله " لأنَّ ذلك منافٍ " أي : لأنَّ العصيانَ منافٍ، وهو كلامٌ صحيح، وقوله :" فكان المأمورُ به غير مدلُولٍ عليه ولا مَنْوي " لا يسلَّم بل مدلولٌ عليه ومنويٌّ لا دلالة الموافق بل دلالة المناقض ؛ كما بيَّنا، وقوله :" لا يَنوِي مأموراً به " لا يلسَّم، وقوله " لأنَّ " فَفَسقُوا " يدافعه، إلى آخره " قلنا : نعم، نوى شيئاً، ويظهر خلافه ؛ لأنَّ نقيضه يدل عليه، وقوله : ونظير " أمَرَ " " شَاءَ " ليس نظيره ؛ لأن مفعول " أمَرَ " كثر التصريح به.
قال سبحانه جل ذكره :﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ﴾ [الأعراف : ٢٨] ﴿أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾ [الأعراف : ٢٩] ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـاذَآ﴾ [الطور : ٣٢]، وقال الشاعر :[البسيط] ٣٣٩٢ - أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ ما أمِرْتَ بِهِ
.....................
قال شهاب الدين رحمه الله : والشيخ ردَّ عليه ردَّ مستريحٍ من النَّظرِ، ولولا خوفُ السآمةِ على الناظرِ، لكان للنظر في كلامهما مجالٌ.
قال ابن الخطيب : ولقائلٍ أن يقول : كما أنَّ قوله :" أمَرْتُهُ "، فَعصَانِي " يدلُّ على أن المأمور به شيءٌ غير المعصية من حيث إنَّ المعصية منافية للأمر مناقضةٌ له، فكذلك قوله : أمرته ففسق يدلُّ أنَّ المأمور به شيء غير الفسقِ ؛ لأن الفسقَ عبارةٌ عن الإتيان
٢٣٦
بضدِّ المأمور به، فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به، كما أنَّ كونها معصية ينافي كونها مأموراً بها ؛ فوجب أن يدلَّ هذا اللفظ على أنَّ المأمور به ليس بفسقٍ، وهذا في غاية الظهور.
الوجه الثاني : أنَّ " أمَرْنَا " بمعنى كَثَّرْنَا قال الواحديُّ : العرب تقول : أَمِرَ القومُ : إذا أكثروا.
ولم يرض به الزمخشريُّ في ظاهر عبارته، فإنه قال : وفسَّر بعضهم " أمَرْنَا " بـ " كَثَّرْنَا " وجعله من باب :" فعَّلتُه، فَفَعَلَ " كـ " ثَبَّرْتُهُ فَثَبَر ".
وفي الحديث :" خَيْرُ المَالِ سكَّة مَأبورةٌ، ومُهرةٌ مَأمُورةٌ "، أي : كثيرة النِّتاجِ.
وقد حكى أبو حاتم هذه اللغة، يقال : أمِرَ القوم، وأمرهم الله، ونقله الواحديُّ عن أهل اللغة، وقال أبو عليٍّ :" الجيِّدُ في " أمَرْنَا " أن يكون بمعنى " كَثَّرْنَا " واستدلَّ أبو عبيدة بما جاء في الحديث، فذكره ؛ يقال : أمر الله المهرة، أي : كثَّر ولدها، قال :" ومَنْ أنكر " أمَرَ الله القومَ " أي : كثَّرهم [لم يلتفت إليه ؛ لثبوت ذلك لغة " ويكونُ ممَّا لزم وتعدى بالحركةِ المختلفة ؛ إذ يقال : أمر القوم، كثروا، وأمرهم الله : كثَّرهُمْ]، وهو من باب المطاوعة : أمرهم الله، فأتمروا، كقولك : شَتَرَ اله عينهُ، فَشتِرَتْ، وجدعَ أنْفَهُ فجَدِعَ، وثلمَ سنَّهُ، فثَلِمَتْ.
وقرأ الحسن، ويحيى بن يعمر، وعكرمة " أمِرْنَا " بكسر الميم ؛ بمعنى " أمَرْنَا " بالفتح، حكى أبو حاتم، عن أبي زيدٍ : أنه يقال :" أمَرَ الله [مالهُ، ] وأمِره " بفتح الميم وكسرها، وقد ردَّ الفراء وهذه القراءة، ولا يلتفت لردِّه ؛ لثبوتها لغة بنقل العدولِ، وقد نقلها قراءة عن ابن عبَّاس أبو جعفر، وأبو الفضل الرازيُّ في " لَوامحهِ " فكيف تردُّ ؟.
وقرأ عليُّ بن أبي طالب، وابن أبي إسحاق وأبو رجاء - رضي الله عنهم - في آخرين " آمَرْنَا " بالمدِّ، ورُويتْ هذه قراءة عن ابن كثير وأبي عمرو، وعاصم ونافع، واختارها يعقوب، والهمزة فيه للتعدية.
وقرأ عليٌّ أيضاً، وابن عباس، وأبو عثمان النهديُّ :" أمَّرْنَا " بالتشديد، وفيه وجهان : أحدهما : أنَّ التضعيف للتعدية، عدَّاه تارة بالهمزة، وأخرى بتضعيف العين، كأخرجته وخرَّجته.
والثاني : أنه بمعنى جعلناهم أمراء، واللازم من ذلك " أمِّرَ " قال الفارسي :" لا وجه
٢٣٧


الصفحة التالية
Icon