وأجاب الجبائيُّ فقال : ليس المراد من الآية أنَّه تعالى يريد إهلاكهم قبل أن يعصوا ويستحقُّوا ذلك ؛ لأنَّه لا يظلم، وهو على الله محالٌ، بل المراد من الإرادة قرب تلك الحالة، فكان التقدير : وإذا قرب وقت إهلاكِ قريةٍ أمرنا مترفيها، ففسقوا فيها، وهو كقول القائل : إذا أراد المريض أن يموت ازدادت أمراضه شدَّة، وإذا أراد التَّجر أن يفتقر أتاه الخسران من كلِّ جهةٍ، وليس المراد أنَّ المريض يريدُ أن يموت على الذُّنوب، والتَّاجر يريد أن يفتقر، وإنَّما يعنون أنه سيصير كذلك ؛ فكذا هاهنا.
واعلم أنَّ هذه الوجوه جواب عن الوجه الأوَّل من الوجوه الثلاثة المتقدمة في التمسُّك بهذه الآية، وكلها عدول عن ظاهر اللفظ، وأما الوجه الثاني والثالث فبقي سليماً عن الطَّعن.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ١٣٢٣
والمراد منه أنَّ الطريق الذي ذكرناه هو عادتنا مع الذين يفسقون، ويتمرَّدون فيما تقدم من القرون الذين كانوا بعد نوح ؛ حادٍ وثمود، وغيرهم، ثم إنه - تعالى - خاطب رسوله - صلوات الله عليه - بما يكون خطاباً وردعاً وزجراً للكُلِّ، فقال جلَّ ذكره :﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً﴾ وهذا تخويف لكفَّار " مكَّة ".
و " كَمْ " نصب بأهلكنا، و " مِنَ القُرونِ " تمييزٌ لـ " كَمْ " و " مِن بَعدِ نُوح " :" مِنْ " لابتداء الغاية، والأولى للبيان، فلذلك اتَّحدَ متعلقهما، وقال الحوفيُّ :" الثانية بدلٌ من الأولى "، وليس كذلك ؛ لاختلاف معنييهما، والباء بعد " كَفَى " تقدم الكلام عليها، وقال ابن عطيَّة :" إنما يجاءُ بهذه الباء في موضع مدحٍ أو ذمٍّ " والباء في " بِذنُوب " متعلقة بـ " خَبِيراً " وعلَّقها الحوفيُّ بـ " كَفَى ".
قال افراء - رحمه الله - : لو ألغيت الباء ؛ من قوله :" بربِّكَ " جاز، وإنما يجوز دخول الباء في المرفوع إذا كان يمدحٌ به أو يذمُّ ؛ كقولك : كفاك به، وأكرم به رجلاً، وطاب بطعامك طعاماً، وجاد بثوبك ثوباً.
أما إذا لم يكن مدحاً أو ذمًّا، لم يجز دخولها، فلا يجوز أن يقال :" قَامَ بِأخيكَ " وأنت تريد :" قَامَ أخُوكَ ".
فصل في مقدار القرن قال عبد الله بن أبي أوفى : القرنُ : عشرون ومائة سنة، فبعث رسول الله ﷺ أوَّل قرنٍ، وكان آخره يزيد بن معاوية، وقيل : مائة سنة.
٢٤٠
رُوِيَ عن محمد بن القاسم عن عبد الله بن بسرٍ المازنيّ : أنَّ النبي ﷺ وضع يده على رأسه، وقال :" سَيعيشُ هذا الغُلام قَرْناً " وقال محمد بن القاسم - رضي الله عنه - : فما زلنا نعدُّ له ؛ حتَّى تمت له مائة سنة، ثمَّ مات.
وقال الكلبيُّ : ثمانون سنة.
وقيل : أربعون سنة.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٢٤٠
قوله - تعالى - :﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ﴾ الآية.
" مَنْ " شرطية، و " عَجَّلنا " جوابها، و " ما يشاءُ " مفعولها، و " لِمنْ نُريد " بدل بعضٍ من كلٍّ، من الضمير في " لَهُ " بإعادة العامل، و " لِمَنْ نُريد " تقديره : لمن نريد تعجيله له.
[قوله :] " ثُمَّ جَعلنَا لهُ جهنَّم " " جَعلَ " هنا تصييرية.
وقوله :" يَصْلاهَا " الجملة حال : إمَّا من الضمير في " لَهُ " وإمَّا من " جَهَنَّم " و " مَذمُوماً " حال من فاعل " يَصْلاها " قيل : وفي الكلام حذف، وهو حذف المقابل ؛ إذ الأصل : من كان يريد العاجلة، وسعى لها سعيها، وهو كافرٌ لدلالةِ ما بعده عليه، وقيل : بل الأصل : من كان يريد العاجلة بعمله للآخرة كالمنافق.
ومعنى " يَصْلاهَا " : يدخلها.
" مَذمُوماً " : مطروداً، " مَدْحُوراً " : مُبْعَداً.
وقوله :" سَعْيَهَا " : فيه وجهان : أحدهما : أنه مفعول به ؛ لأنَّ المعنى : وعمل لها عملها.
والثاني : أنه مصدر، و " لهَا " أي : من أجلها.
والجملة من قوله :" وهو مُؤمِنٌ " هذه الجملة حال من فاعل " سَعَى ".
قوله تعالى :﴿كُلاًّ نُّمِدُّ﴾ :" كُلاًّ " منصوب بـ " نُمِدُّ " و " هؤلاء " بدل، " وهؤلاءِ : عطف عليه، أي : كلَّ فريق نمدُّ هؤلاء الساعين بالعاجلة، وهؤلاء الساعين للآخرة، وهذا
٢٤١


الصفحة التالية
Icon