عليهم أحدٌ، ولولا أنه موجبٌ للذلِّ، وإلا لما كان الأمر كذلك، فلما كان الوطء ذلاًّ، كان السَّعي في تقليله موافقاً للعقول، فاقتصار المرأة الواحدة على الرجل الواحد سعيٌ في تقليل ذلك العمل، وما فيه ن الذلِّ يجبر بالمنافع الحاصلة.
وأمَّا الزِّنا، فإنه فتح لباب العمل القبيح، ولا يجبر بشيءٍ من المنافع، فيبقى على أصل المنع.
وإذا ثبت ذلك، فنقول : إنه تعالى وصف الزِّنا بصفاتٍ ثلاثة : كونه ﴿فَاحِشَةً وَمَقْتاً﴾ [النساء : ٢٢] في آية أخرى ﴿وَسَآءَ سَبِيلاً﴾ أما كونه فاحشة ؛ فلاشتماله على الأمور المذكورة، وأمَّا المقت فلأنَّ الزانية تصير ممقوتة مكروهة ؛ لما ذكرنا.
وأما كونه ساء سبيلاً : فهو ما ذكرنا من أنَّه لا يبقى فرقٌ بين الإنسان وبين البهائن في عدم اختصاص الذكران بالإناث، وبقاء الذلِّ والعيب والعارِ على المرأة من غير أن يجبر بشيءٍ من المنافع.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٢٦٩
فقوله جلَّ ذكره :﴿إِلاَّ بِالحَقِّ﴾ أي : إلا بسبب الحقِّ، فيتعلق بـ " لا تَقْتلُوا " ويجوز أن يكون حالاً من فاعل " لا تَقْتلُوا " أو من مفعوله، أي : لا تقتلوا إلا ملتبسين بالحقِّ أو إلاَّ ملتبسة بالحقِّ، ويجوز أن يكون نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي : إلاَّ قتلاً ملتبساً بالحقِّ.
فصل والحقُّ المبيح للقتل هو قوله - صلوات الله وسلامه عليه - :" لا يحلُّ دمُ امرئ مسلم إلاَّ بإحدى ثلاثٍ : رجُلٌ كفر باللهِ بعد إيمانه، أو زنى بعد أحصانهِ، أو قَتلَ نفساً بِغيْرِ نَفْسٍ ".
فإن قيل : إنَّ أكبر الكبائر بعد الكفر بالله سبحانه وتعالى هو القتل، فما السبب في أنه تعالى بدأ بالنَّهي عن الزنا، ثم نهى بعده عن القتل.
فالجواب : أنَّا بيَّنا أنَّ فتح باب الزِّنا يمنعُ دخول الإنسان في الوجود، والقتل يدلُّ على إعدامه، ودخوله ف يالوجود مقدَّم على إعدامه بعد وجوده ؛ فلهذا ذكر الزِّنا أولاً، ثم ذكر بعده القتل.
٢٧١
واعلم أنَّ الأصل في القتل هو التحريم، والحلُّ إنما ثبت بسببٍ عارضٍ ؛ فذلك نهى عن القتل بناء على حكم الأصل، ثم استثنى منه الحالة التي يباح فيها القتل، وهو عند حصول الأسباب العرضيَّة، فقال :﴿إِلاَّ بِالحَقِّ﴾ ويدل على أنَّ الأصل في القتل التحريم وجوهٌ : أحدها : أن القتل ضررٌ، والأصل في المضارِّ الحرمة، قال - صلوات الله وسلم عليه - :" لا ضَررَ، ولا ضِرارَ ".
وثانيها : قوله ﷺ :" الآدَمِيُّ بُنيَانُ الربِّ، مَلعُونٌ من هَدمَ بُنْيانَ الربِّ ".
وثالثها : أن الآدميَّ خلق للعبادة، لقوله تعالى :﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات : ٥٦] والعبادة لا تتمُّ إلاَّ بعدم القتل.
ورابعها : أنَّ القتل إفساد، فحرم ؛ لقوله تعالى :﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ﴾ [الأعراف : ٥٦].
وخامسها : إذا تعارض دليل تحريم القتل، ودليل إباحته، فالإجماع على أنَّ جانب الحرمة راجح، ولولا أنَّ مقتضى الأصل هو التحريمُ، وإلاَّ لكان ذلك ترجيحاً لا لمرجحٍ، وهو محالٌ.
وإذا علم أنَّ الأصل في القتل هو التحريم، فقوله :" ولا تَقْتلُوا " نهيٌ وتحريمٌ.
وقوله :" حَرَّمَ الله " إعادة لذكر التحريم على سبيل التاكيد، ثم استثنى عنه الأسباب العرضيَّة، فقال : إلاَّ بالحقِّ، وها هنا طريقان : الطريق الأول : أن قوله " إلاَّ بالحقِّ " مجمل ليس فيه بيان أن ذلك الحقَّ ما هو، ثم قال تعالى :﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً﴾ أي : في حقِّ استيفاء القصاص ؛ فوجب أن يكون المراد من الحقِّ هذه الصورة فقط، فتكون الآية نصًّا صريحاً في تحريم القتل، إلا بهذا السبب الواحد.
الطريق الثاني : أن نقول : دلَّت السنة على أنَّ ذلك الحقَّ هو أحد الأمور الثلاثة المتقدَّمة في الخبر.
واعلم أن الخبر من باب الآحادِ، فإن قلنا : إنَّ قوله تعالى :﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً﴾ بيان لذلك الحقِّ، كانت الآية صريحة في أنه لا يحلُّ القتل إلاَّ بهذا السبب الواحد، وحينئذٍ : يصير الخبر مخصِّصاً للآية، ويصير فرعاً لقولنا بصحَّة تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وإن قلنا بأن قوله تعالى :﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً﴾ ليس بياناً لذلك الحقِّ، فحينئذ يصير الخبر مفسِّراً للحقِّ المذكور في الآية، وعلى هذا لا يصير فرعاً على جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وهو تنبيهٌ حسنٌ.
٢٧٢


الصفحة التالية
Icon