لمَّا تكلَّم في الآية المتقدمة في إثبات الإلهيَّة، تكلَّم في هذه الآية في تقرير النبوَّة، وفيها قولان : الأول : أنَّ هذه الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله ﷺ إذا قرأ القرآن على الناس.
روي أنه - عليه السلام - كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه وعن يساره أحزاب من ولد قصيٍّ يصفقون، ويصفِّرون، ويخلطون عليه بالأشعار.
وروى سعيد بن جبير عن أسماء رضي الله عنها قالت :" كَانَ رسُول الله ﷺ جالساً، ومعه أبُو بكرٍ - رضي الله عنه -، فنزلت سورة ﴿تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ﴾ [المسد : ١] فجاءت امرأة أبي لهبٍ، ومعها حجرٌ، تريد رسول الله ﷺ وهي تقول :[الرجز] ٣٤٢٥ _ _ - مُذمَّماً أبَيْنَا _ _ ودِينَهُ قَلَيْنَا _ _ وأَمْرَهُ عَصَيْنَا _ _ ولم تَرهُ فقال أبو بكرٍ - رضي الله عنه - يا رسول الله معها حجرٌ، أخشى عليك، فتلا رسول الله ﷺ هذه الآية، فقالت لأبي بكرٍ : قد علمت أنِّي ابنة سيِّد قريش، وأنَّ صاحبك هجاني، فقال ابو بكرٍ - رضي الله عنه - : والله، ما ينطق بالشِّعر، ولا يقوله، فرجعت، وهي تقول : قد كنتُ جئت بهذا الحجر ؛ لأرضخ رأسه.
فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : ما رأتك يا رسول الله ؟ قال : لا، لم يزل ملك بيني وبينها يسترني ".
وروى ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - أنَّ أبا سفيان والنضر بن الحارث وأبا جهل وغيرهم، كانوا يجالسون النبي ﷺ ويستمعون إلى حديثه، فقال النَّضر يوماً : ما أدري ما يقول محمجٌ، غير أنِّي أرى شَفَتيْهِ تتحركان بشيءٍ، فقال أبو سفيان : إنِّي أرى بعض ما يقوله حقًّا.
وقال أبو جهلٍ : هو مجنونٌ.
وقال أبو لهبٍ : كاهنٌ، وقال حويطب بن عبدِ العزَّى : هو شاعرٌ، فنزلت هذه الآية، وكان رسول الله ﷺ إذا أراد تلاوة القرآن، قرأ قبلها ثلاث آياتٍ، وهي قوله في سورة الكهف ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ﴾ [الأنعام : ٢٥].
٢٩٩
وفي النحل :﴿أُولَائِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [النحل : ١٠٨].
وفي الجاثية :﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية : ٢٣].
فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات، عن عيون المشركين، فكانوا يمرُّون به، ولا يرونه.
قوله تعالى :﴿مَّسْتُوراً﴾ أنَّ الله تعالى يخلق حجاباً في عيونهم يمنعهم ذلك الحجاب عن رؤية النبي ﷺ وهو شيء لا يرى، فكان مستوراً من هذا الوجه.
واحتجُّوا بهذه الآية على أنَّه يجوز أن تكون الحاسَّة سليمة، ويكون المرثيُّ حاضراً، مع أنَّه لا يراه الإنسان ؛ لنَّ الله تعالى يخلق في عينه مانعاً يمنعه عن رؤيته، قالوا : إن النبي ﷺ كان حاضراً، وكانت حواس الكفَّار سليمة، ثمَّ إنهم كانوا لا يرونه، وأخبر الله تعالى أن ذلك إنما كان لأجل أن جعل بينه وبينهم حجاباً مستوراً، ولا معنى للحجاب المستور إلاَّ ما يخلقه الله في عيونهم بمنعهم من رؤيتهز وقيل : مستور على النسب، أي : ذو سترٍ، كقولهم : مكانٌ مهولٌ، وجارية مغنوجة، أي : ذو هولٍ، وذات غنج، ولا يقال فيهما : هلت المكان، ولا غنجت الجارية.
وقيل : وكذلك قولهم : رجُلٌ مرطوبٌ : أي ذو رطوبةٍ، ولا يقال : رطبة، هو وصف على جهة المبالغة ؛ كقولهم :" شعرٌ شاعرٌ " ورد هذا : بأنَّ ذلك إنَّما يكون في اسم الفاعل، ومن لفظ الأول.
وقال الأخفش وآخرون : المستورُ ها هنا بمعنى السَّاتر والمفعول قد يرد بمعنى الفاعل ؛ كقولهم : مشئوم وميمون بمعنى : شائم ويامن، وهذا كما جاء اسم الفاعل بمعنى مفعول كماءٍ دافقٍ.
القول الثاني : أنَّ الحجاب هو الطَّبع الذي على قلوبهم والطبع المنع الذي منعهم عن أن يدركوا لطائف القرآن ومحاسنه وفوائده، فالمراد من الحجاب المستورِ ذلك الطبع الذي خلقه في قلوبهم.
ثم قال تعالى :﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً﴾ وهذه الآية مذكورة بعيناه في سورة الأنعام.
قوله :" وحدهُ " فيه وجهان : أحدهما : أنه منصوب على الحال، وإن كان معرفة لفظاً، لأنه في قوة النكرة غذ هو ف يمعنى منفرداً، وهل هو مصدر، أو اسم موضوع موضع المصدر الموضوع موضع الحال، فوحده وضِعَ مَوْضِعَ إيحَادٍ، وإيحادٌ وضعَ مَوْضِعَ موحدٍ.
وهو مذهب سيبويه، أو هو مصدر على حذف الزوائد، إذ يقال : أوْحدهُ يُوحِدهُ إيحَاداً، أو هو مصدر بنفسه لـ " وَحَد " ثُلاثِياً ".
٣٠٠