جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٢٠
في النظم وجوهٌ : أولها : أنه تعالى، لمَّا ذكر أنَّ الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - كان في محنةٍ عظيمة من قومه، بيَّن أنَّ حال جميع الأنبياءِ مع أهل زمانهم كذلك ؛ ألا ترى أنَّ الأول منهم آدمُ - صلوات الله وسلامه عليه - ثمَّ إنه كان في محنة من إبليس.
وثانيها : أنَّ القوم، إنَّما نازعُوا رسول الله ﷺ وعاندوه، واقترحوا عليه الاقتراحات الباطلة لأمرين : الكبر والحسد، فبيَّن سبحانه وتعالى أنَّ هذا الكبر والحسد هما اللذان حملا إبليس على الكفر، و الخروج من الإيمان، فهذه بليَّةٌ عظيمةٌ قديمةٌ.
وثالثها : أنَّهم لما وصفهم الله تعالى بقوله :﴿فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً﴾ [الإسراء : ٦٠] بيَّن ما هو السبب لحصُول هذا الطُّغيان، وهو قول إبليس " لأحتنكنَّ ذريته إلا قليلاً " فلهذا المقصود ذكر الله تعالى قصَّة آدم وإبليس.
واعلم أنَّ هذه القصَّة ذكرها الله تعالى في سبع سورٍ ؛ البقرةِ، والأعراف، والحجر، وهذه السورة، والكهف، وطه، وص، وقد تقدم الاستقصاء عليها في البقرة، فليلتفت إليه.
وقوله :﴿أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً﴾ استفهامٌ بمعنى الإنكار، معناه : أنَّ أصلي أشرفُ من أصله ؛ فوجب أن أكون أشرف منه، والأشرف لا يخدم الأدنى.
قوله تعالى :" طيناً " : فيه أوجه : أحدها : أنه حال من " لِمَنْ " فالعامل فيها " أأسجدُ " أو من عائد هذا الموصول، أي : خلقتهُ طيناً، فالعامل فيها " خَلقْتَ " وجاز وقوع طينٍ حالاً، وإن كان جامداً، لدلالته على الأصالة ؛ كأنه قال : متأصِّلاً من طين.
٣٢٤
الثاني : أنه منصوبٌ على إسقاطِ الخافض، أي : من طينٍ، كما صرَّح به في الآية الأخرى :﴿وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ [الأعراف : ١٢].
الثالث : أنه منتصبٌ على التمييز، قاله الزَّجَّاجِ، وتبعه ابن عطيَّة، ولا يظهر ذلك ؛ إذ لم يتقدَّم إبهامُ ذاتٍ ولا نسبةٍ.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٢٤
قوله تعالى :﴿أَرَأَيْتَكَ﴾ : قد تقدم مستوفى في الأنعام [الآية : ٤٠].
وقال الزمخشريُّ :" الكافُ للخطاب، و " هذا " مفعولٌ به، والمعنى : أخبرني عن هذا الذي كرَّمته عليَّ، أي : فضَّلته، لِمَ كرَّمتهُ، وأنا خيرٌ منه ؟ فاختصر الكلام ".
وهذا قريبٌ من كلام الحوفيِّ - رحمه الله -.
قال ابن عطيَّة :" والكاف في " أرَايْتَكَ " حرف خطابٍ، لا موضع لها من الإعراب، ومعنى " أرَأيْت " أتأمَّلت ونحوه، كأنَّ المخاطب يُنبِّه المخاطب ؛ ليستجمع لما ينصُّ عليه بعد.
وقال سيبويه :" هي بمعنى أخبرني "، ومثل بقوله :" أرَأيْتكَ زيداً، أبو من هُوَ ؟ " وقول سيبويه صحيحٌ ؛ حيث يكون بعدها استفهام كمثاله، وأمَّا في الآية فهو كما قلت، وليست التي ذكر سيبويه " قلت : وهذا الذي ذكره ليس بمسلَّم، بل الآية كمثاله، غاية ما في الباب : أنَّ المفعول الثاني محذوفٌ، وهو الجملة الاستفهامية المقدَّرة ؛ لانعقادِ الكلام من مبتدأ وخبر، لو قلت : هذا الذي كرَّمته عليَّ، لم كرَّمته ؟.
وقال الفرَّاء :" الكاف في محلِّ نصبٍ، أي : أرَأيْتَ نفسك ؛ كقولك : أتدبَّرْتَ آخِرَ أمرك، فإني صانعٌ فيه كذا، ثم ابتدأ : هذا الذي كرَّمت عليَّ ".
وقال ابن الخطيب : يمكن أن يقال :" هذا " مبتدأ محذوف عنه حرفُ الاستفهام، و " الَّذي " مع صلته خبره، تقديره : أخبرني، أهذا الذي كرَّمتهُ عليَّ ؛ وهذا على وجه الاستصغار، والاستحقار، وإنَّما حذف حرف الاستفهام ؛ لأنَّه حصل في قوله :" أرَأيْتكَ ".
فأغنى عن تكريره.
وقال أبو البقاء :" والمفعول الثاني محذوفٌ، تقديره : تفضيله أو تكريمه ".
قال شهاب الدين : وهذا لا يجوز ؛ لنَّ المفعول الثاني في هذا الباب لا يكون إلا جملة مشتملة على استفهام.
قال أبو حيَّان :" ولو ذهب ذاهبٌ غلى أنَّ الجملة القسميَّة هي المفعول الثاني، لكان
٣٢٥
حسناً ".
قال شهاب الدين : يردُّ ذلك التزامُ كون المفعولِ الثاني جملة مشتملة على استفهامٍ، وقد تقرَّر جميع ذلك في الأنعام، فعليك باعتباره ههنا.
قوله :﴿لَئِنْ أَخَّرْتَنِ﴾ قرأ ابن كثيرٍ بإثبات ياءِ المتكلِّم وصلاً ووقفاً، ونافعٌ وأبو عمرو بإثباتها وصلاً، وحذفها وقفاً، وهذه قاعدةُ من ذكر في الياءاتِ الزائدةِ على الرَّسم، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً، وكل هذا في حرف هذه السورة، أمَّا الذي في المنافقين [الآية : ١٠] في قوله ﴿لَوْلا اا أَخَّرْتَنِى ﴾ فأثبته الكلُّ ؛ لثبوتها في الرسم الكريم.
قوله " لأحْتَنِكَنَّ " جواب القسم الموطَّأ له باللام، ومعنى " لأحْتَنِكَنَّ " لأستولينَّ عليهم استيلاء من جعل في حنكِ الدَّابة حبلاً يقودها به، فلا تأبى ولا [تشمسُ] عليه، يقال : حَنكَ فلانٌ الدَّابة، واحتنكها، أي : فعل بها ذلك، واحْتَنكَ الجرادُ الأرض : أكل نباتها، قال :[الرجز] ٣٤٣٤ - نَشْكُو إليْكَ سَنةً قَدْ أجْحَفتْ
جَهْداً إلى جَهْدٍ بِنَا فأضْعَفتْ