وأمَّا على الوجه الرابع : فيجوز أن تكون التامة والناقصة بالتقديم والتأخير ؛ لعدم المحذور ؛ لأنَّ " مقاماً " معمولٌ لغير الصلة.
وقوله :" محموداً " في انتصابه وجهان : أحدهما : أنه منصوب على الحال من قوله : يَبْعثكَ، أي : يبعثك محموداً.
والثاني : أن يكون نعتاً للمقام.
فصل في معنى " عسى " من الله اتفق المفسرون على أنَّ كلمة " عَسَى " من الله واجبٌ.
قال أهل المعاني : لأنه لفظ يفيد الإطماع، ومن أطمع إنساناً في شيء، ثم حرمه، كان عاراً، والله تعالى أكرم من أن يطمع واحداً في شيء، ثم لا يعطيه.
وفي تفسير المقام المحمود أربعة أقوالٍ : الأول : أنه الشَّفاعة.
قال الواحدي : أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة ؛ كما قال النبي ﷺ في هذه الآية :" هو المقام الذي أشفعُ لأمَّتِي فيه ".
قال ابن الخطيب : واللفظ مشعر به ؛ لأنَّ الإنسان إنما يصير محموداً إذا حمده حامدٌ، والحمد، إنما يكون على الإنعام، فهذا المقام المحموج يجب أن يكون مقاماً أنعم فيه رسول الله ﷺ على قوم، فحمدوه على ذلك الإنعام، وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون تبليغ الدِّين، وتعليم الشرائع ؛ لأنَّ ذلك كان حاصلاً في الحال، وقوله :﴿عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ﴾ تطميعٌ، وتطميع الإنسان في الشيء الذي حصل له وعده محالٌ ؛ فوجب أن يكون ذلك الإنعام الذي لأجله يصير محموداً إنعاماً يصل منه بعد ذلك إلى النَّاس، وما ذاك إلاَّ شفاعته عند الله تعالى.
وأيضاً : التنكيرُ في قوله :﴿مَقَاماً مَّحْمُوداً﴾ يدل على أنه يحصل للنبي ﷺ في ذلك المقامِ حمدٌ بالغٌ عظيمٌ كاملٌ، ومن المعلوم أنَّ حمد الإنسان على سعيه في التخليص من العذاب أعظم من حمده في السَّعي في زيادة الثَّواب ؛ لأنَّه لا حاجة به إليها ؛ لأنَّ حاجة الإنسان في رفع الآلام العظيمة عن النَّفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التي لا حاجة به إلى تحصيلها، وإذا
٣٦٣
ثبت هذا، وجب أن يكون المراد من قوله تعالى :﴿عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً﴾ هو الشَّفاعة في إسقاط العقاب ؛ على ما هو مذهب أهل السنة.
ولمَّا ثبت أن لفظ الآية مشعرٌ بهذا المعنى إشعاراً قويًّا، ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى، وجب حمل اللفظ عليه، ومما يؤكِّد ذلك الدعاء المشهور عنه في إجابة المؤذِّن :" وابعثه المقام المحمود الذي وعدته ".
واتَّفق النَّاس على أنَّ المراد منه الشَّفاعة.
والقول الثاني : قال حذيفة : يجمع الناس في صعيدٍ، فلا تتكلَّم نفسٌ، فأوَّل من يتكلَّم محمدٌ - صلوات الله وسلامه عليه - فيقول : لَبَّيكَ، وسَعْديْكَ، والشَّرُّ ليس إليك، والمهديُّ من هَديْتَ، والعَبْدُ بين يَديْكَ، وبِكَ وإلَيْكَ، لا مَنْجَى ولا مَلْجَأ مِنْكَ إلاَّ إليكَ، تَباركتَ، وتَعاليْتَ، سُبحانَكَ ربَّ البيتِ ".
قال : فهذا هو المراد من قوله عزَّ وجلَّ :﴿عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً﴾.
والقول الأول أولى ؛ لأنَّ سعيه في الشَّفاعة يفيد إقدام الناس على حمده، فيصير محموداً، وأمَّا ذكر هذا الدعاء، فلا يفيد إلا الثواب، أمَّا الحمد، فلا.
فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : إنَّه تعالى يحمده على هذا القول ؟.
فالجواب : أنَّ الحمد في اللغة : مختصٌّ بالثناءِ المذكور ف يمقابلة الإنعام بلفظٍ، فإن ورد لفظ " الحمد " في غير هذا المعنى، فعلى سبيل المجاز.
القول الثالث : المراد مقامٌ تحمد عاقبته، وهذا ضعيفٌ ؛ لما ذكرنا.
القول الرابع : قال الواحديُّ - رحمه الله - : روي عن ابن عبَّاس - رضي الله
٣٦٤
عنه - أنه قال : يقعدُ الله محمداً على العرشِ، وعن مجاهد أنَّه قال : يجلسه معه على العرشِ.
قال الواحدي : وهذا قولٌ رذلٌ موحشٌ فظيعٌ، ونص الكتاب يفسد هذا التفسير من وجوه : الأول : أن البعث ضدُّ الإجلاس، يقال : بعثتُ النَّاقة، وبعث الله الميت، أي : أقامه من قبله، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير الضدِّ بالضدِّ ؛ وهو فاسدٌ.
والثاني : أنه تعالى، لو كان جالساً على العرشِ، بحيث يجلس عنده محمد - صلوات الله وسلامه عليه - لكان محدوداً متناهياً، ومن كان كذلك، فهو محدثٌ.
الثالث : أنه تعالى قال :﴿مَقَاماً مَّحْمُوداً﴾ ولم يقل : مقعداً، والمقام : موضع القيام، لا موضع القعود.
الرابع : أن جلوسه مع الله على العرش ليس فيه كثير إعزازٍ ؛ لأن هؤلاء الحمقاء يقولون : إنَّ أهل الجنة كلهم يجلسون معه ويرونه، وإنه تعالى يسألهم عن أحوالهم التي كانوا عليها في الدنيا، وإذا كانت هذه الحالة حاصلة عندهم لكلِّ المؤمنين، لم يكن في تخصيص محمد ﷺ بذلك مزيد شرفٍ ومرتبةٍ.
الخامس : أنه إذا قيل : السلطان بعث فلاناً، فهم منه أنَّه أرسله لإصلاح مهماتهم، ولا يفهم أنه أجلسه مع نفسه ؛ فثبت أن هذا القول كلام رذلٌ، لا يميل إليه إلاَّ قليل العقل، عديم الدِّين.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٥٤