قوله :"كُلَّما خَبتْ " يجوز فيها الاستئناف، والحالية من " جهنَّم "، والعامل فيها معنى المأوى.
وخَبتِ النَّار تَخْبُوا " إذا سكن لهيبها ؛ قال الواحدي : خبت سكنت، فإذا ضعف جمرها، قيل : خمدتْ، فإذا طفئت بالجملة، قيل : همدتْ ؛ قال : ٣٤٦٨ - وَسْطهُ كاليَراعِ أوْ سُرجِ المِجْـ
ـدَلِ طَوْراً يَخْبُو وطَوْراً يُنِيرُ
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٨٩
وقال آخر :[الهزج] ٣٤٦٩ - لمن نَارٌ قُبَيْلَ الصُّبْـ
ـحِ عند البَيتِ ما تَخْبُو
إذا مَا أخمدَتْ ألْقِي عَليْهَا المَندلُ الرَّطْبُ وأدغم التاء في زاي " زِدْنَاهُمْ " أبو عمرو، والأخوان، وورش، وأظهرها الباقون.
قوله :﴿زِدْنَاهُمْ سَعِيراً﴾.
قال ابن قتيبة : زدناهم تلهُّباً.
فإن قيل : إنه تعالى لا يخفف عنهم العذاب.
وقوله :﴿كُلَّمَا خَبَتْ﴾ يدلُّ على أنَّ العذاب محققٌ في ذلك الوقت.
فالجواب : أن قوله " كُلَّما خَبَتْ " يقتضي سكون لهب النار، أما أنه يدل على تخفيف العذاب، فلا ؛ لأنَّ الله تعالى قال :﴿لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ﴾ [الزخرف : ٧٥].
وقيل : معناه :" كلَّما خبت " [أي :] كلما أرادت أن تخبو ﴿زِدْنَاهُمْ سَعِيراً﴾ أي : وقوداً.
وقيل : المراد من قوله :﴿كُلَّمَا خَبَتْ﴾ أي : نضجت جلودهم، واحترقت، أعيدوا إلى ما كانوا عليه.
قوله تعالى :﴿ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ﴾ يجوز أن يكون مبتدأ وخبراً، و " بأنهم " متعلق بالجزاء، أي :" ذلك العذاب المتقدم جزاؤهم بسبب أنَّهم " ويجوز أن يكون " جَزاؤهُمْ " مبتدأ ثانياً، والجار خبره، والجملة خبر " ذلك "، ويجوز أن يكون " جَزاؤهُمْ " بدلاً، أو بياناً، و " بِأنَّهُم " الخبر.
٣٩٣
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ العمل علَّة الجزاءِ.
قوله :﴿وَقَالُواْ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً﴾.
لمَّا أجاب عن شبهات منكري النبوة، عاد إلى حكاية شبهة منكري المعاد.
وتلك الشبهة : هي أنَّ الإنسان بعد أن يصير رفاتاً، ورميماً، يبعد أن يعود هو بعينه، فأجاب الله عنه : بأنَّ من بدر على خلق السموات والأرض في عظمتها وشدَّتها قادر على أن يخلق مثلهم في سغرهم، وضعفهم ؛ نظيره قوله تعالى :﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ [غافر : ٧٥].
وفي قوله :﴿قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ قولان : الأول :[معناه] قادر على أن يخلقهم ثانياً، فعبَّر عن خلقهم بلفظ " المثل " ؛ كقوله المتكلِّمين : إنَّ الإعادة مثل الابتداء.
والثاني : قادر على أن يخلق عبيداً آخرين يوحِّدونه، ويقرُّون بكمال حكمته وقدرته، ويتركون هذه الشبهات الفاسدة ؛ وعلى هذا، فهو كقوله تعالى :﴿وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [إبراهيم : ١٩] وقوله :﴿وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ﴾ [التوبة : ٣٩].
قال الواحديُّ : والأول أشبه بما قبله.
ولمَّا بيَّن الله تعالى بالدَّليل المذكور : أنَّ البعث يمكنُ الوجود في نفسه، أردفه بأنَّ لوقوعه ودخوله في الوجود وقتاً معلوماً عند الله تعالى ؛ وهو قوله :﴿وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ﴾ أي : جعل لهم وقتاً لا ريب فيه، ﴿فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُوراً﴾ أي : الظالمون إلا الكفر والجحود.
قوله :﴿وَجَعَلَ لَهُمْ﴾ : معطوف على قوله " أو لَمْ يَروْا " ؛ لأنه في قوة : قد رأوا، فليس داخلاً في حيِّز الإنكار، بل معطوفاً على جملته برأسها.
وقوله :﴿لاَّ رَيْبَ فِيهِ﴾ صفة لـ " أجلاً "، أي : أجلاً غير مرتابٍ فيه، فإن أريد به يوم القيامة، فالإفرادُ واضحٌ، وإن أريد به الموت، فهو اسم جنسٍ ؛ إذ لكلِّ إنسانٍ أجلٌ يخصه.
وقوله :﴿إَلاَّ كُفُوراً﴾ قد تقدَّم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٨٩
اعلم أنَّ الكفار، لما قالوا : لن نؤمن لك ؛ حتَّى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً وطلبوا إجراء الأنهارِ، والعيون في بلدهم لتكثر أموالهم ؛ بين أنَّهم لو ملكوا خزائن رحمة الله،
٣٩٤
لبقوا على بخلهم وشحهم، ولا أقدموا على إيصال النفع إلى أحدٍ، وعلى هذا التقدير : فلا فائدة في إسعافهم لما طلبوه.
قوله :﴿لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ﴾ : فيه ثلاثة أوجه : أحدها :- وإليه ذهب الزمخشري، والحوفي، وابن عطيَّة، وأبو البقاء، ومكيٌّ - : أن المسألة من باب الاشتغال، فـ " أنْتُمْ " مرفوع بفعلٍ مقدر يفسِّره هذا الظاهر، لأنَّ " لَوْ " لا يليها إلا الفعل، ظاهراً أو مضمراً، فهي كـ " إنْ " في قوله تعالى :﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة : ٦]، وفي قوله : ٣٤٧٠ - وإنْ هُوَ لمْ يَحْمِلْ على النَّفْسِ ضَيْمهَا
فَليْسَ إلى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبيلُ
والأصل : لو تملكون، فحذف الفعل ؛ لدلالة ما بعده عليه، فانفصل الضمير، وهو الواو ؛ إذ لا يمكن بقاؤه متَّصلاً بعد حذف رافعه، ومثله :" وإنْ هو لم يحمل " : الأصل : وإن لم يحمل، فلما حذف الفعل، انفصل ذلك الضميرُ المستتر، وبرز، ومثله فيما نحنُ فيه قول الشاعر :