قوله :﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ﴾ الآية.
لما بيَّن أن القرآن معجز قاهر دالٌّ على الصدق في قوله تعالى :﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ﴾ [الإسراء : ٨٨].
ثم حكى عن الكفار أنَّهم لم يكتفوا بهذا المعجز، بل طلبوا أشياء أخر، ثم أجاب تعالى بأنَّه لا حاجة إلى إظهار معجزاتٍ أخر، وبيَّن ذلك بوجوهٍ كثيرةٍ : منها : أنَّ قوم موسى آتاهم تسع آيات بيِّناتٍ، فلما جحدوا بها أهلكهم الله، فكذا ههنا، أي : أنَّ المعجزات التي اقترحها قوم محمد ﷺ ثمَّ كفروا بها ؛ فوجب إنزال عذاب الاستئصال بهم، وذلك غير جائزٍ في الحكمة ؛ لعلمه تعالى أنَّ فيهم من يؤمن، أو من يظهر من نسله مؤمنٌ.
لمَّا تمَّ هذا الجواب، عاد إلى حال تعظيم القرآن ؛ فقال :﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾، أي : ما أردنا بإنزاله إلاَّ إظهار الحقِّ.
قوله :﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ﴾ : في هذا الجار ثلاثة أوجه : أحدها : أنه متعلق بـ " أنْزَلْنَاهُ "، و الباء سببية، أي : أنزلناه بسبب الحقِّ.
والثاني : أنه حال من مفعول " أنْزَلنَاهُ "، أي : ومعه الحقُّ.
فتكون الباء بمعنى " مَعَ " قاله الفارسي ؛ كما تقول : نزل بعدَّته، وخرج بسلاحه.
والثالث : أنه حال من فاعله، أي : ملتبسين بالحق، وعلى هذين الوجهين يتعلق بمحذوف.
والضمير في " أنْزلْنَاهُ " الظاهر عوده للقرآن : إمَّا الملفوظ به في قوله قبل ذلك ﴿عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ﴾ [الإسراء : ٨٨] ؛ ويكون ذلك جرياً على قاعدة أساليب كلامهم، وهو أن يستطرد المتكلمُ في ذكر شيءٍ لم يسبق له كلامه أولاً، ثم يعود إلى كلامه الأول.
وإمَّا للقرآن غير الملفوظ أولاً ؛ لدلالة الحال عليه ؛ كقوله تعالى :﴿إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾ [الدخان : ٣] وقيل : يعود على موسى ؛ كقوله :﴿وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ﴾ [الحديد : ٢٥]، وقيل : على الوعد، وقيل : على الآيات التِّسعِ، وذكر الضمير، وأفرده ؛ حملاً على معنى الدليل والبرهان.
قوله :" وبالحقِّ نَزلَ " فيه الوجهان الأولان، دون الثالث ؛ لعدم ضميرٍ آخر غير ضمير القرآن لاحتمال أن يكون التقدير : نزل بالحقِّ ؛ كما تقول : نزلت بزيدٍ، وعلى هذا التقدير : فالحق محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه الجملة وجهان : أحدهما : أنها للتأكيد ؛ وذلك أنه يقال : أنزلته، فنزل، وأنزلته فلم ينزل ؛ فجيء بقوله " وبالحقِّ نَزلَ " ؛ دفعاً لهذا الوهم، وقيل : لست للتأكيد، والمغايرة تحصل بالتغاير
٤٠٤
بين الحقَّين، فالحق الأول التوحيد، والثاني الوعد والوعيد، والمر والنهي، وقال الزمخشري :" وما أنزلنا القرآن إلاَّ بالحكمة المقتضية لإنزاله، وما نزل إلا ملتبساً بالحق والحكمة ؛ لاشتماله على الهداية إلى كلِّ خيرٍ، أو ما أنزلناه من المسماء إلا بالحقِّ محفوظاً بالرَّصدِ من الملائكةِ، وما نزل على الرسول إلاَّ محفوظاً بهم من تخليط الشياطين "، و " مبشِّراً ونذيراً " : حالان من مفعول " أرْسلْنَاكَ " مبشراً للمطيعين، ونذيراً للعاصين، فإن قبلوا الدِّين الحقَّ، انتفعوا به، وإلا فليس عليك من كفرهم [شيءٌ].
قوله تعالى :﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ﴾ الآية : في نصب " قُرْآناً " أوجه : أظهرها : أنه منصوب بفعل مقدر، أي :" وآتَيْناكَ قُرآناً " يدل عليه قوله ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ﴾ [الإسراء : ١٠١].
الثاني : أنه منصوبٌ ؛ عطفاً على الكاف في " أرْسَلْنَاكَ " ؛ قال ابن عطية :" من حيثُ كان إرسالُ هذا، وإنزال هذا بمعنى واحدٍ ".
الثالث : أنه منصوب ؛ عطفاً على " مُبشِّراً ونذيراً " قال الفراء :" هو منصوبٌ بـ " أرْسَلناكَ "، أي : ما أرسلناك إلا مبشِّراً ونذيراً وقرآناً ؛ كما تقول : ورحمة يعني : لأن القرآن رحمةٌ "، بمعنى أنه جعل نفس القرآن مراداً به الرحمة ؛ مبالغة، ولو ادَّعى ذلك على حذفِ مضافٍ، كان أقرب، أي :" وذا قرآنٍ " وهذان الوجهان متكلَّفان.
الرابع : أن ينتصب على الاشتغال، أي : وفرقنا قُرآناً فرقناه، واعتذر أبو حيان عن ذلك، أي : عن كونه لا يصحُّ الابتداء به، لو جعلناه مبتدأ ؛ لعدم مسوغٍ ؛ لأنه لا يجوز الاشتغال إلا حيث يجوز في ذلك الاسم الابتداء، بأنَّ ثمَّ صفة محذوفة، تقديره : وقرآناً أي قرآن، بمعنى عظيم، و " فَرقْنَاهُ " على هذا : لا محل له ؛ بخلاف الأوجه المتقدمة ؛ فإن محلَّه النصب ؛ لأنَّه نعتٌ لـ " قُرآناً ".
وقرأ العامة " فَرقْناهُ " بالتخفيف، أي : بيَّنا حلاله وحرامه، أو فرقنا فيه بين الحق والباطل، وقرأ عليُّ بن أبي طالبٍ - كرَّم الله وجهه - وأبيٌّ، وعبد الله، وابن عباس والشعبي، وقتادة، وحميدٌ في آخرين بالتشديد، وفيه وجهان : أحدهما : أنَّ التضعيف فيه للتكثير، أي : فرَّقنا آياته بين أمرٍ ونهيٍ، وحكمٍ وأحكامٍ، ومواعظ وأمثال، وقصصٍ وأخبار ماضية ومستقبلة.
والثاني : أنه دالٍّ على التفريق والتنجيم.
قال الزمخشريُّ :" وعن ابن عباس : أنه قرأ مشدداً، وقال : لم ينزل في يومين، ولا
٤٠٥