وإنما يستفاد ذلك من نصٍّ، وهو مفقودٌ ؛ فثبت أنَّه لا سبيل إليه.
قال ابن الخطيب : هذه السورة الثلاث اشتملت كلُّ واحدة منها على حصول حالةٍ غريبةٍ عجيبةٍ نادرةٍ في هذا العالم : سورة بني إسرائيل اشتملت على الإسراء بالجسد الشريف ﷺ من مكة إلى الشَّام، وهي حالة عجيبة، وهذه السورة اشتملت على بقاء القوم في النوم مدَّة ثلاثمائة سنةٍ، وأزيد، وهي أيضاً حالة عجيبة وسورة مريم اشتملت على حدوث الولد لا من الأب، وهي أيضاً حاله غريبة والمعتمد في بيان هذه العجائب، والغرائب المذكورة : أنَّه تعالى قادر على كلِّ الممكنات، عالمٌ بجميع المعلومات من الجزئيات والكليَّات، فإنَّ كلَّ ما كان ممكن الحصول في بعض الأوقات كان ممكن الحصول في سائر الأوقات.
وإذا ثبتت هذه الأصول الثلاثة ثبت القول بإمكان البعث، ولما كان قادراً على الكل وثبت أن بقاء الإنسان حياً في النوم مدة يوم ممكن، فكذلك بقاؤهُ مدة ثلاثمائة سنةٍ، يوجب أن يكون ممكناً، بمعنى : أن إله العالم يحفظه عن الآفةِ.
وأما الفلاسفةُ فإنهم يقولون : لا يبعد وقوع أشكالٍ فلكية غريبة توجب في عالم الكون والفساد حصول أحوالٍ غريبة نادرة، وذكر أبو علي بن سفيان في " باب الزَّمان " من كتاب " الشِّفا " أن أرسطاطاليس الحكيم ذكر أنه عرض لقوم من المباطيل حالةٌ شبيهة بأصحاب الكهف.
قال ابن سينا : ويدلُّ التاريخ على أنهم قبل أصحاب الكهف.
قوله تعالى :﴿وَاتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ﴾ الآية.
اعلم أن كفَّار قريش اجتمعوا، وقالوا لرسول الله ﷺ : إن أردت أن نؤمن بك فاطرد هؤلاء الذين آمنوا بك، فنهاهُ الله عن ذلك، وبيّن في هذه الآيات أنَّ الذي اقترحوه والتمسوه مطلوب فاسد، ثم إنه تعالى جعل الأصل في هذا الباب شيئاً واحداً، وهو أن يواظب على تلاوة الكتاب الذي أوحاه الله إليه، ولا يلتفت إلى اقتراح المقترحين وتعنتهم، فقال :﴿وَاتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ﴾ أي التزم قراءة الكتاب الذي أوحي إليك والزم العمل به ﴿لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ أي : لا مغيِّر للقرآن، وهذه آية تدل على أنه لا يجوز تخصيص النصِّ بالقياس ؛ لأن معنى الكلام : الزم العمل بمقتضى هذا الكتاب، وذلك يقتضي وجوب العمل بمقتضى ظاهره.
فإن قيل : فيجب ألا يتطرَّق النسخ إليه أيضاً.
فالجواب : أن هذا مذهبُ أبي مسلم الأصفهاني، وليس ببعيد، وأيضاً فالنسخ في الحقيقة ليس بتبديلٍ ؛ لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ، فالناسخ
٤٦٧
كالمغاير، فكيف يكون تبديلاً ؟ ثم قال :﴿ولن تَجدِ مِنْ دُونهِ مُلتحداً﴾ أي : ملجأ، قال أهل اللغة : هو من لحد وألحد : إذا مال، ومنه قوله ﴿الَّذِينَ يُلْحِدُونَ﴾ [فصلت : ٤٠] والملحدُ : الماثل عن الدِّين.
قال ابن عباس : حرزاً.
وقال الحسن : مدخلاً.
وقال مجاهد : ملجأ.
وقيل : ولن تجد من دونه ملتحداً في البيان والإرشاد.
قوله :﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ﴾ أي : احبسها وثبتها قال أبو ذؤيب :[الكامل] ٣٥٠٧ب - فَصَبرْتُ نَفْساً عِنْدَ ذلِكَ حُرَّة
تَرْسُو إذَا نَفْسُ الجَبانِ تَطلَّعُ
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٦٢
وقوله :" بالغَداةِ " تقدَّم الكلام عليها في الأنعام.
فصل في نزول الآية نزلت في عيينة بن حصن الفزاريِّ، أتى النَّبي ﷺ قبل أن يسلم، وعنده جماعةٌ من الفقراءِ فيهم سلمان، وعليه شملةٌ قد عرق فيها، وبيده خوصةٌ يشقها، ثم ينسجها ؛ فقال عيينة للنبي ﷺ : أما يؤذيكَ ريحُ هؤلاء ؟ ونحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا، أسلم الناس، وما يمنعنا من اتِّباعِكَ إلاَّ هؤلاء، حتى نتبعك، واجعل لنا مجلساً، ولهم مجلساً، فأنزل الله تعالى :﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ﴾، أي : احبسْ يا محمد نفسك ﴿مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ طرفي النَّهار، ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ أي : يريدون الله، لا يريدون به عرضاً من الدنيا.
وقال قتادة : نزلت في أصحاب الصُّفة، وكانوا سبعمائة رجلٍ فقراء في مسجد رسول الله ﷺ لا يرجعون إلى تجارة، ولا إلى زرع، يصلُّون صلاة، وينتظرون أخرى، فلما نزلت هذه الآية، قال النبيُّ ﷺ :" الحمد لله الذي جعل في أمَّتي من أمرتُ أن أصبر نفسي معهم ".
وهذه القصة منقطعة عما قبلها، وكلامٌ مفيدٌ مستقلٌّ، وتقدم نظير هذه الآية في سورة الأنعام، وهو قوله تعالى :﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ﴾ [الأنعام : ٥٢] ففي تلك الآية نهى الرسول - عليه السلام - عن طردهم، وفي هذه الآية أمرهُ بمجالستهم والمصابرة معهم.
فصل في قراءات الآية قرأ ابن عامر بالغداة والعشيّ، بضمِّ الغين، والباقون بالغَداة، وهما لغتان، فقيل :
٤٦٨