الأول : قطعه بأنَّ تلك الأشياء لا تبيدُ أبداً.
والثاني : إنكار البعث.
فإن قيل : هب أنَّه شكَّ في القيامة، فكيف قال : ما أظنُّ أن تبيد هذه أبداً، مع أنَّ الحسَّ يدلُّ على أنَّ أحوال الدنيا بأسرها ذاهبةٌ غير باقية ؟.
فالجواب : مراده أنَّها لا تبيد مدَّة حياته، ثم قال :﴿وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً﴾ أي مرجعاً وعاقبة، وانتصابه على التَّمييز، ونظيره قوله تعالى :﴿وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى ﴾ [فصلت : ٥٠].
وقوله :﴿لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً﴾ [مريم : ٧٧].
فإن قيل : كيف قال : ولَئِنْ رددت إلى ربي وهو ينكرُ البعث ؟.
فالجواب : معناه : ولئنْ رددتُّ إلى ربِّي على زعمكَ، يعطيني هنالك خيراً منها.
والسَّبب في وقوعه في هذه الشُّبهة أنَّه تعالى لمَّا أعطاه المال والجاه في الدنيا، ظنَّ أنه إنَّما أعطاه ذلك ؛ لكونه مستحقًّا له، والاستحقاقُ باقٍ بعد الموت ؛ فوجب حصول الإعطاء، والمقدِّمة الأولى كاذبةٌ ؛ فإن فتح باب الدنيا على الإنسان، يكون في أكثر الأمر للاستدراج.
وقرأ أبو عمرو والكوفيون " مِنْهَا " بالإفراد ؛ نظراً إلى أقرب مذكورٍ، وهو قوله :" جنَّتهُ " وهي في مصاحف العراق، دون ميم، والباقون " مِنْهُما " بالتثنية ؛ نظراً إلى الأصل في قوله :" جَنَّتيْنِ " و " كِلتَا الجنَّتيْنِ " ورُسِمَتْ في مصاحفِ الحرمينِ والشَّام بالميم، فكل قد وافق رسم مصحفه.
قوله :﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ﴾ أي المسلم.
قوله :﴿وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ﴾ أي : خلق أصلك من تراب، وهذا يدلُّ على أنَّ الشاكَّ في البعث كافرٌ.
ووجه الاستدلال أنَّه، لمَّا قدر على [الابتداء]، وجب أن يقدر على الإعادة.
وأيضاً : فإنَّه تعالى، لمَّا خلقك هكذا، فلم يخلقك عبثاً، وإنَّما خلقك لهذا المعنى، وجب أن يحصل للمطيع ثوابٌ، وللمذنب عقابٌ ؛ ويدلُّ على هذا قوله :﴿ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً﴾ أي : هيَّأك تهيئة تعقل وتصلح أنت للتكليف، فهل يحصل للعاقل مع هذه الآية إهمال أمرك ؟ !.
٤٨٨
قوله :﴿مِن نُّطْفَةٍ﴾ النُّطفة في الأصل : القطرة من الماء الصافي، يقال : نَظفَ يَنطفُ، أي : قطرَ يَقطُر، وفي الحديث :" فَخرجَ، ورَأسهُ يَنطفُ " وفي رواية : يَقطرُ، وهي مفسِّرةٌ، وأطلق على المنيِّ " نُطفَةٌ " تشبيهاً بذلك.
قوله :" رجُلاً " فيه وجهان : أحدهما : أنه حالٌ، وجاز ذلك، وإن كان غير منتقلٍ، ولا مشتقٍّ ؛ لأنه جاء بعد " سوَّاك " إذ كان من الجائز : أن يسوِّيهُ غير رجل، وهو كقولهم :" خَلقَ الله الزَّرافةَ يَديْهَا أطْولَ من رِجْلَيْهَا " وقول الآخر :[الطويل] ٣٥٢٨ - فَجاءَتْ بِهِ سَبْطَ العِظامِ كأنَّما
عِمامَتهُ بيْنَ الرِّجالِ لِوَاءُ
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٨٣
والثاني : أنه مفعول ثانٍ لـ " سَوَّاكَ " لتضمُّنه معنى خلقك، وصيَّرك وجعلك، وهو ظاهر قول الحوفيِّ.
قوله :﴿لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي﴾ : قرأ ابن عامر، ويعقوب، ونافع في رواية بإثبات الألف وصلاً ووقفاً، والباقون بحذفها وصلاً، وبإثباتها وقفاً وهي رواية عن نافعٍ، فالوقفُ وفاقٌ.
والأصل في هذه الكلمة :" لكن أنّا " فنقل حركة همزة " أنَا " إلى نون " لكِنْ " وحذف الهمزة، فالتقى مثلان، فأدغم، وهذا أحسنُ الوجهين في تخريج هذا، وقيل : حذف همزة " أنا " [اعتباطاً]، فالتقى مثلان، فأدغم، وليس بشيءٍ ؛ لجري الأول على القواعد، فالجماعة جروا على مقتضى قواعدهم في حذف ألف " أنّا " وصلاً، وإثباتها وقفاً، وقد تقدم لك : أنَّ نافعاً يثبت ألفه وصلاً قبل همزة مضمومة، أو مكسورة، أو مفتوحة ؛ بتفصيلٍ مذكورٍ في البقرة، وهنا لم يصادف همزة، فهو على أصله أيضاً، ولو أثبت الألف هنا، لكان أقرب من إثبات غيره ؛ لأنه أثبتها في الوصلِ جملة.
وأمَّا ابن عامرٍ، فإنه خرج عن أصله في الجملة ؛ إذ ليس من مذهبه إثبات هذه الألف وصلاً في موضع [ما]، وإنما اتَّبع الرسم.
وقد تقدَّم أنها لغة تميمٍ أيضاً.
وإعراب ذلك : أن يكون " أنَا " مبتدأ، و " هو " مبتدأ ثانٍ، و " هو " ضمير الشأن، و " اللهُ " مبتدأ ثالث و " ربِّي " خبر الثالث، والثالث وخبره خبر الثاني، و الثاني وخبره خبر الأول، والرابط [بين الأول] وبين خبره الياء في " ربِّي " ويجوز أن تكون الجلالة بدلاً من " هُوَ " أو نعتاً، أو بياناً، إذا جعل " هو " عائداً على ما تقدَّم من قوله " بالذي خلقك من
٤٨٩


الصفحة التالية
Icon