قوله :" تَذرُوهُ " صفة لـ " هَشِيماً " والذَّرْوُ : التفريق، وقيل : الرفع.
والعامة " تَذْروهُ " بالواو، وقرأ عبد الله " تَذْريه " من الذَّري، ففي لامه لغتان : الواو والياء، وقرأ ابن عبَّاس " تُذْريهِ " بضمِّ التاء من الإذراءِ، وهذه تحتمل أن تكون من الذَّرْوِ، وأن تكون من الذَّري، والعامة على " الرَّياحِ " جمعاً، وزيد بن عليِّ، و الحسنُ، والنخعيُّ في آخرين " الرِّيحُ " بالإفراد.
فصل في معنى ألفاظ الآية و " مَثَل " معنى المثل، قال ابن عباسٍ : يعني بالماءِ المطر، نزل من السماء ﴿فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ﴾ خرج من كل لون وزهرة، " فأصْبحَ " عن قريب " هَشِيماً " يابساً.
وقال الضحاك : كسيراً.
" تَذْروهُ الرِّياحُ " : قال ابن عباس : تذريه.
وقال أبو عبيدة : تفرّقه.
وقال القتبي : تنسفه.
٥٠٠
قوله :﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً﴾ قادراً بتكوينه أولاً، وتنميته وسطاً، وإبطاله آخراً، فأحوال الدنيا كذلك تظهرُ أولاً في غاية الحسن والنَّضارة، ثم تتزايد قليلاً قليلاً، ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن تنتهي إلى الفناء والذَّهاب، ومثل هذا الشيء ليس للعاقل أن يبتهج به.
فصل في حسن ترتيب الآيات قوله تعالى :﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ الآية.
لما بيّن تعالى أنَّ الدنيا سريعة الانقراض والانقضاء مشرفة على الزَّوال والبوار والفناء، بيَّن تعالى أنَّ المال والبنين زينة الحياة الدنيا، و المقصود منه إدخال هذا الجزئيِّ تحت ذلك الكليِّ، فينعقد به قياسٌ بيِّن الإنتاج، وهو أنَّ المال والبنين زينة الحياة الدنيا، وكل ما كان زينة الحياة الدنيا، فهو سريعُ الانقضاءِ والانقراضِ، ومن اليقين البديهيِّ، أن ما كان كذلك، فإنه يقبح بالعاقل أن يفتخر به، أو يقيم له في نظره وزناً، فهذا برهان باهرٌ على فساد قول المشركين الذين افتخروا بكثرة الأموال والولاد على فقراء [المؤمنين].
قوله :﴿زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ على التثنية، وسقطت ألفها لفظاً لالتقاء الساكنين، فيتوهم أنه قرئ بنصب " زينة الحياة ".
فصل في بيان رجحان فقراء المؤمنين على أغنياء الكفار لما أقام البرهان على فساد قول المشركين، ذكر ما يدلُّ على رجحان أولئك الفقراء على أغنياء الكفَّار، فقال :﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ﴾.
وبيان هذا الدليل : أنَّ خيرات الدنيا [منقرضة]، وخبرات الآخرة باقيةٌ دائمةٌ، والدائم الباقي خيرٌ من المنقرضِ الزائل، وهذا معلومٌ بالضَّرورة.
قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : المال والبنون حرث الحياة الدنيا، والأعمال الصالحة حرث الآخرة، وقد يجمعها الله لأقوامٍ وقال ابن عبَّاس وعكرمة ومجاهد : الباقيات الصالحات هي قول : سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
٥٠١
وقال - عليه الصلاة والسلام - :" أفْضَلُ الكلامِ أربعٌ : سُبْحانَ الله، والحَمدُ لله، ولا إله إلا الله، والله أكبرْ ".
وقال ﷺ :" أكثروا من البَاقيَاتِ الصَّالحاتِ قيل : وما هُنَّ يَا رسُول الله ؟ قال : الملة.
قيل : وما هي يا رسول الله ؟ قال : التَّكبيرُ، والتَّهليلُ، والتَّسبيحُ، والتَّحميدُ، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العلِّ العظيم ".
وقال سعيد بن جبير ومسروق وإبراهيم ويروى أيضاً عن ابن عباس : البَاقيَاتُ الصَّالحاتُ : الصلوات الخَمْسُ.
وقال قتادة : ويروى أيضاً عن ابن عبَّاس أنَّها الأعمال الصالحة ﴿خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً﴾ جزاء ﴿وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾ أي : ما يؤمِّله الإنسان.
قوله :﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ﴾ الآية.
لما بيَّن خساسة الدُّنيا، وشرف القيامة، أراد أن يعيِّن أحوال القيامةِ.
قوله :﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ﴾ :" يَوْمَ " منصوب بقولٍ مضمرٍ بعده، تقديره : نقول لهم يوم نسيِّر الجبالك لقد جئتمونا، وقيل : بإضمار " اذْكُرْ " وقيل : هو معطوف على " عِنْدَ ربِّكَ " فيكون معمولاً لقوله " خَيْرٌ ".
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر بضمِّ التاء، وفتح الياء مبنياً للمفعول، " الجِبَالُ " بالرفع ؛ لقيامه مقام الفاعل، وحذف الفاعل ؛ للعلم به، وهو الله، أو من يأمره من الملائكة، وهذه القراءة موافقةٌ لما اتُّفقَ عليه في قوله ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ﴾ [النبأ : ٢٠]، ويؤيِّدها قراءة عبد الله هنا ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ﴾ فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول.
والباقون " نُسيِّرُ " بنون العظمة، والياء مكسورة من " سَيَّرَ " بالتشديد ؛ " الجبالَ " بالنصب على المفعول به، وهذه القراءة مناسبة لما بعدها من قوله ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً﴾.
وقرأ الحسن كقراءة ابن كثير، ومن ذكر معه إلاَّ أنه بالياء من تحت ؛ لأنَّ التأنيث مجازيٌّ وقرأ ابن محيصن، ورواها محبوب عن أبي عمرو :[ " تسير " ] بفتح التاء من فوق
٥٠٢


الصفحة التالية
Icon