ويؤكِّد هذا أن الضمير يجب عوده على أقرب مذكور، وهو هنا ﴿بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾.
قوله :﴿وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً﴾ وضع الظاهر موضع المضمر ؛ إذ المراد بـ " المُضلِّينَ " من نفى عنهم إشهاد خلق السموات، وإنما نبَّه بذلك على وصفهم القبيح.
وقرأ العامة " كُنْتُ " بضمِّ التاء ؛ إخباراً عنه تعالى وقرأ الحسن، والجحدري، وأبو جعفر بفتحها ؛ خطاباً لنبيِّنا محمد ﷺ وقرأ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ﴿مُتَّخِذاً الْمُضِلِّينَ﴾ نوَّن اسم الفاعل، ونصب به، إذ المراد به الحال، أو الاستقبال.
وقرأ عيسى " عَضْداً " بفتح العين، وسكون الضاد، وهو تخفيف سائغ، كقول تميمٍ : سبْع ورجْل في : سبُعٍ ورجُلٍ وقرأ الحسن " عُضداً " بالضم والسكون ؛ وذلك أنه نقل حركة الضاد إلى العين بعد سلب العين حركتها، وعنه أيضاً " عضداً " بفتحتين، و " عضداً " بضمتين، والضحاك " عضداً " بكسر العين، وفتح الضاد، و هذه لغات في هذا الحرف.
والعضدُ من الإنسان وغيره معروف، ويعبِّر به عن العون والنصير ؛ يقال : فلان عضدي، ومنه ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾ [القصص : ٣٥] أي : سنقوِّي نصرتك ومعونتك.
قوله :﴿وَيَوْمَ يَقُولُ﴾ : معمول لـ " اذْكُرْ " أي : ويوم نقول، يجري كيت وكيت وقرأ حمزة " نقُول " بنون العظمة ؛ مراعاة للتكلُّم في قوله :" مَا أشْهدتهُمْ " إلى آخره، والباقون بياء الغيبة ؛ لتقدم اسمه الشريف العظيم الظاهر.
أي : يقول الله يوم القيامة :﴿نَادُواْ شُرَكَآئِيَ﴾ يعني الأوثان.
وقيل : للجنِّ، ولم يذكر تعالى أنَّهم كيف دعوهم في هذه الآية الكريمة، بيَّن ذلك في آية أخرى، وهو أنَّهم قالوا :﴿إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾ [إبراهيم : ٢١].
﴿الَّذِينَ زَعَمْتُمْ﴾ أنهم شركاء ﴿فَدَعَوْهُمْ﴾ فاستغاثوا بهم، ﴿فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ﴾، أي : لم يجيبوهم، ولم ينصروهم، ولم يدفعوا عنهم ضرراً، ثم قال :﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً﴾ أي : مهلكاً.
قاله عطاء والضحاك.
٥١١
فصل في بيان الموبق قال الزمخشري وغيره : والمَوْبِقُ : المهلك، يقال : وَبِقَ يَوبِقُ وَبَقاً، أي : هَلَكَ ووَبَقَ يَبِقُ وُبُوقاً أيضاً : هلك وأوبقه ذنبه، وعن الفراء :" جعَل اللهُ تواصُلهمْ هَلاكاً " فجعل البين بمعنى الوصل، وليس بظرفٍ ؛ كقوله :﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام : ٩٤] على قراءة من قرأ بالرفع، فعلى الأول يكون " موبقاً " مفعولاً أول للجعل، والثاني الظرف المتقدِّم، ويجوز أن تكون متعدية لواحدٍ، فيتعلق الظرف بالجعلِ أو بمحذوفٍ على الحال من " مَوْبِقاً ".
وعلى قول الفراء ليكون " بينهم " مفعولاً أول و " مَوبقاً " مفعولاً ثانياً، والمَوْبِقُ هنا : يجوز أن يكون مصدراً، وهو الظاهر، ويجوز أن يكون مكاناً.
قال ابن عباس : وهو وادٍ في النَّار.
وقال ابن الأعربيِّ : كل حاجزٍ بين الشيئين يكون المَوبِقَ.
وقال الحسن :" مَوْبقاً " أي : عداوة، هي في شدَّتها هلاك ؛ كقولهم : لا يكن حُبك كلفاً.
وقيل : الموبقُ : البَرْزَخُ البعيد.
وجعلنا بين هؤلاء الكفَّار وبين الملائكة وعيسى برزخاً بعيداً، يهلك فيه النصارى ؛ لفرط بعده ؛ لأنَّهم في قاع جهنَّم، وهو في أعلى الجنا.
قوله : روَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ} الآية.
﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا ااْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا﴾، في هذا الظنِّ قولان : الأول : أنه بمعنى العلم واليقين.
والثاني : قال ابن الخطيب : الأقرب إلى المعنى : أن هؤلاء الكفار يرون النَّاس من مكانٍ بعيدٍ، فيظنُّون أنهم مواقعوها في تلك السَّاعة، من غير تأخير من شدَّة ما
٥١٢
يسمعون من تغيُّظها وزفيرها، كقوله :﴿إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً﴾ [الفرقان : ١٢].
وقوله :﴿مُّوَاقِعُوهَا﴾ أي : مخالطوها ؛ فإنَّ مخالطة الشيء لغيره، إذا كان تامَّة قويَّة، يقال لها : مواقعة.
قوله :" مَصْرِفاً " المصرف المعدل، اي : لم يجدوا عنها معدلاً.
قال الهذليُّ :[الكامل] ٣٥٣٨ - أزُهَيْرُ هَلْ عَن شَيْبةٍ مِنْ مصْرفِ
أمْ لا خُلودَ لبَاذلٍ مُتكلِّفِ
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٠٧


الصفحة التالية
Icon