٥٢١
حذف " مسير " وأقيمت الياء مقامه، فانقلبت مرفوعة مستترة بعد أن كانت مخفوضة المحلِّ بارزة، وبقي " حتَّى أبلغ " على حاله هو الخبر.
وقد خلط الزمخشري هذين الوجهين، فجعلهما وجهاً واحداً، ولكن في عبارة حسنة جدًّا، فقال :" فإن قلت :" لا أبْرَحُ " إن كان بمعنى " لا أزولُ " من برح المكان، فقد دلَّ على الإقامةِ، لا على السَّفر، وإن كان بمعنى " لا أزَالُ " فلا بدَّ من خبر، قلت : هي بمعنى " لا أزَالُ " وقد حذف الخبر ؛ لأنَّ الحال والكلام معاً يدلان عليه ؛ أمَّا الحال، فلأنها كانت حال سفرٍ، وأمَّا الكلام، فلأن قوله " حتَّى أبلغ " غاية مضروبة تستدعي ما هي غاية له، فلا بدَّ أن يكون المعنى : لا أبرحُ أسير حتَّى أبلغَ، ووجه آخرُ : وهو أن يكون المعنى : لا يبرحُ مسيري، حتَّى أبلغ على أنَّ " حتَّى أبلغَ " هو الخبر، فلمَّا حذف المضافُ، أقيم المضافُ إليه مقامهُ، وهو ضمير المتكلِّم، فانقلب الفعل من ضمير الغائب إلى لفظ المتكلِّم، وهو وجهٌ لطيفٌ ".
قال شهاب الدين : وهذا على حسنه فيه نظرٌ لا يخفى، وهو : خلوُّ الجملة الواقعة خبراً عن " مسيري " في الأصل من رابطٍ يربطها به ؛ ألا ترى أنه ليس في قوله " حتَّى أبلغ " ضمير يعود على " مسيري " إنما يعود على المضاف إليه المستتر، ومثل ذلك لا يكتفى به.
ويمكن أن يجاب عنه : بأن العائد محذوفٌ، تقديره : حتى أبلغ به، أي : بمسيري.
وإن كانت التامة، كان المعنى : لا أبرح ما أنا عليه، بمعنى : ألزمُ المسير والطَّلبَ، ولا أفارقه، ولا أتركه ؛ حتَّى أبلغ ؛ كما تقول : لا أبرح المكان، فعلى هذا : يحتاجُ أيضاً إلى حذف مفعول به، كما تقدَّم تقريره فالحذف لا بدَّ منه على تقديري التَّمامِ والنقصان [في أحد وجهي النقصان].
وقرأ العامة " مجمع " بفتح الميم، وهو مكان الاجتماع، وقيل : مصدر، وقرأ الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسارٍ بكسرها، وهو شاذٌّ ؛ لفتح عين مضارعة.
قوله :" حُقُباً " منصوبٌ على الظرف، وهو بمعنى الدَّهر.
وقيل : ثمانون سنة، وقيل : سنةٌ واحدةٌ بلغة قريش، وقيل : سبعون، وقرأ الحسن :" حُقْباً " بإسكان القاف، فيجوز أن يكون تخفيفاً، وأن يكون لغة مستقلة، ويجمع على " أحقابٍ " كعنقٍ وأعناقٍ، وفي معناه : الحقبةُ بالكسر، قال امرؤُ القيس : ٣٥٤٦ - فَإن تَنْأ عَنْهَا حِقْبةً لا تُلاقِهَا
فإنَّكَ ممَّا أحْدَثَتْ بالمُجرِّبِ
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥١٨
٥٢٢
والحقبة بالضمِّ أيضاً، وتجمع الأولى على حقبٍ، بكسر الحاء كقربٍ، والثانية على حقبٍ، بضمِّها ؛ كقربٍ.
فإن قيل قوله :" أوْ أمْضِيَ " فيه وجهان : أظهرهما : أنه منسوق على " أبْلُغَ " يعني بأحد أمرين : إمَّا ببلوغه المجمع، أو بمضيِّه حقباً.
والثاني : أنه تغييةٌ لقوله " لا أبْرَحُ " فيكون منصوباً بإضمار " أنْ " بعد " أو " بمعنى " إلى نحو " لألزَمنَّكَ أو تَقضِيَنِي حقِّي ".
فالجواب قال أبو حيان :" فالمعنى : لا أبرحُ حتى أبلغ مجمع البحرين، إلى أن أمضي زماناً، أتيقَّنُ معه فوات مجمع البحرين " قال شهاب الدين : فيكون الفعل المنفيُّ قد غيِّي بغايتين مكاناً وزماناً ؛ فلا بدَّ من حصولهما معاً، نحو :" لأسيرنَّ إلى بيتك إلى الظَّهر " فلا بدَّ من حصولِ الغايتين ؛ والمعنى الذي ذكره الشيخ يقتضي أنه يمضي زماناً يتيقَّن فيه فوات مجمع البحرين.
وجعل أبو البقاء " أو " هنا بمعنى " إلاَّ " في أحد الوجهين : قال :" والثاني : أنها بمعنى : إلاَّ أن أمضي زماناً ؛ أتيقَّن معه فوات مجمع البحرين " وهذا الذي ذكره أبو البقاء معنى صحيحٌ، فأخذ الشيخ هذا المعنى، ركَّبهُ مع القول بأنَّها بمعنى " إلى " المقتضيةِ للغاية، فمن ثمَّ جاء الإشكالُ.
فصل في المراد بمجمع البحرين قوله :" مجمعُ البَحريْنِ " ؛ الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر - عليه السلام - : هو ملتقى بحرين فارس والرُّوم ممَّا يلي المشرق، قاله قتادة، [وقال محمد بن كعب : طنجة] وقال أبي بن كعبٍ : إفريقيَّة.
وقيل : البحران موسى والخضر ؛ لأنَّهما كانا بحري علمٍ.
وليس في اللفظ ما يدل على تعيين هذين البحرين ؛ فإن صحَّ بالخبر الصحيح شيء فذاك، وإلاَّ فالأولى السُّكوت عنه.
ثم قال :" أوْ أمضيَ حُقباً " : أو أسير زماناً طويلاً.
واعلم أنَّ الله تعالى كان أعلم موسى حال هذا العالم، وما أعلمه بموضعه بعينه، فقال موسى : لا أزالُ أمشي ؛ حتَّى يجتمع البحرانِ، فيصيرا بحراً واحداً، أو أمضي دهراً طويلاً ؛ حتى أجد هذا العالم، وهذا إخبارٌ من موسى أنَّه وطن نفسه على تحمُّل التَّعب الشَّديد، والعناء العظيم في السَّفر ؛ لأجل طلب العلم، وذلك تنبيهٌ على أنَّ المتعلِّم، لو سار من المشرق إلى المغرب ؛ لأجل مسألة واحدة، حقَّ له ذلك.
٥٢٣


الصفحة التالية
Icon