قال ابن عبَّاس : إنَّه لم ينس، ولكنًَّه من معاريض الكلام، فكأنَّه نسي شيئاً آخر.
وقيل : معناه : بما تركت من عهدك، والنِّسيان التَّرك.
وروي عن النبيِّ ﷺ أنه قال :" كانت الأولى من موسى نسياناً، والوسطى شرطاً، والثالثة عمداً ".
فصل في الرد على الطاعنين في عصمة الأنبياء قال ابن الخطيب : احتجَّ الطَّاعنون في عصمة الأنبياءِ بهذه الآية من وجهين : أحدهما : أنه ثبت بالدليل أن ذلك العالم كان نبيًّا، ثم قال موسى :" أخَرقتهَا، لتُغْرِقَ أهْلهَا "، فإن صدق موصى في هذا القول، دلَّ ذلك على صدور الذَّنْب العظيم من ذلك النبيِّ، وإن كذب، دلَّ ذلك على صدور الذنب [العظيم] من موسى.
والثاني : أنه التزم أنَّه لا يعترض على ذلك العالمِ، وجرت العهود المذكورة بذلك، ثم إنَّه خالف تلك العهود، وذلك ذنبٌ.
فالجواب عن الأول : أن موسى، لما شاهد منه الأمر الخارج عن العادةِ، قال هذا لكلام، لا لأجل أنه اعتقد فيه أنه فعل قبيحاً، بل إنَّه أحبَّ أن يقف على وجهه وسببه، وقد يقال في الشيء العجيب الذي لا يعرف سببه : إنَّه إمرٌ.
وعن الثاني : أنَّه إنما خالف الشَّرط ؛ بناءً على النِّسيان، ثم إنه تعالى حكى عن ذلك العالم أنَّه [لما خالف الشرط] لم يزد على أن قال :﴿أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾، فعندها اعتذر موسى بقوله :﴿لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ﴾ أراد أنه نسي وصيَّته، ولا مؤاخذة على الناسي، ﴿وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً﴾ أي : لا تكلِّفني مشقَّة، يقال : أرهقهُ عسراً وأرهقته عسراً، أي : كلَّفتهُ ذلك.
لا تضيِّق عليَّ أمري، لا تعسِّر متابعتك [ويسرها عليّ] بالإغضاء، وترك المناقشة، و عاملني باليسر، ولا تعاملني بالعسر.
و " عُسْراً " : مفعول ثانٍ لـ " تُرهِقْنِي " من أرهقه كذا، إذا حمَّله إيَّاه، وغشَّاه به، و " ما " في " بِمَأ نسيتُ " مصدرية، أو بمعنى " الذي " والعائد محذوف.
وقرأ أبو جعفر :" عُسُراً " بضمِّ السين، حيث وقع.
قوله :﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ﴾ الآية.
اعلم أنَّ لفظ الغلام قد يتناول الشابَّ البالغ، وأصله من الاغتلامِ، وهو شدَّة
٥٣٦
الشَّقِ، وذلك إنما يكون في الشَّباب، وقد يتناولُ هذا اللفظُ الصبي الصغير، وليس في القرآن كيف لقياه : هل كان يلعبُ مع الغلمان، أو كان منفرداً ؟ أو هل كان مسلماً، أو كان كافراً ؟ أو هل كان بالغاً، أو صغيراً ؟ لكن اسم الغلام بالصَّغير أليقُ، وإن احتمل الكبير، إلاَّ أن قوله :" بغير نفسٍ " أليق بالبالغ منه بالصبيِّ ؛ لأن الصبيِّ لا [يقتل].
قال ابن عباس : لم يكن نبي الله يقول : أقتلت نفساً زكيَّة بغير نفس إلاَّ وهو صبيٌّ لم يبلغ.
وكيفيَّة قتله، هل كان بحزِّ رأسه، أو بضرب رأسه بالجدار، أو بطريق آخر ؟ فليس في لفظ القرآن ما يدلُّ على شيءٍ من هذه الأقسام، لكنَّه روي في الحديث عن ابن عباس عن أبيِّ بن كعب قال : قال النبي ﷺ :" إنَّ الغلام الذي قتله الخضرُ، طبع كافراً، ولو عاش، لأرهق والديه طغياناً وكفراً ".
فإن قيل : إنَّ موسى استبعد أن يقتل النَّفس إلاَّ لأجل القصاصِ، وليس الأمر كذلك، لأنه قد يحلُّ دمه بسبب آخر.
فالجواب : أنَّ السَّبب الأقوى هو ذاك.
قوله :﴿زَكِيَّةً﴾ : قرأ " زَاكِية " بألف وتخفيف الياء : نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وبدون الألف وتشديد الياء : الباقون، فمن قرأ " زاكيةً " فهو اسمُ فاعلٍ على أصله، ومَنْ قرأ " زَكِيَّةً " فقد أخرجه إلى فعيلة للمبالغة.
قال الكسائيُّ والفراء : معناهما واحدٌ ؛ مثل القاسيةِ والقسيَّة، وقال أبو عمرو بن العلاء : الزَّاكيةُ : التي لم تذنبْ قطُّ، والزكيَّة : التي أذنبت ثم تابت.
[والغلام : من لم يبلغْ].
وقد يطلق على البالغ الكبير.
فقيل مجازاً باعتبار ما كان.
ومنه قول ليلى :[الطويل] ٣٥٤٩ - شَفاهَا مِنَ الدَّاءِ الذي قَدْ أصَابهَا
غُلامٌ إذَا هزَّ القَناةَ شَفاهَا
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥١٨
وقول الآخر :[الطويل]
٥٣٧
٣٥٥٠ - تَلقَّ ذُبَابَ السَّيفِ عنِّي فإنَّني
غُلامٌ إذا هو جيتُ لستُ بِشاعرِ


الصفحة التالية
Icon