الأكل [ليلة]، بل كان لأجل تركهم الواجب عليهم.
فإن قيل : إنه ما بلغ في الجوع إلى حدِّ الهلاك ؛ بدليل أنَّه قال :﴿لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً﴾، ولو كان بلغ في الجوع إلى حدِّ الهلاك، لما قدر على ذلك العمل، فكيف يصحُّ منه طلب الأجرة ؟.
فالجواب : لعلَّ ذلك الجوع كان شديداً، إلاَّ أنه ما بلغ حدَّ الهلاك.
قوله :" أنْ يُضيِّفُوهمَا " مفعولٌ به لقوله " أبَوْا " والعامة على التشديد من ضيَّفه يضيِّفه.
والحسن وأبو رجاء وأبو رزين بالتخفيف من : أضافه يضيفه وهما مثل : ميَّله وأماله.
رُوِيَ أنَّ أهل تلك القرية، لمَّا سمعوا نزول هذه الآية، استحيوا، وجاءوا إلى رسول الله ﷺ بحمل من الذَّهب، وقالوا : يا رسول الله، نشتري بهذا الذَّهب أن تجعل الباء تاء ؛ حتى تصير القراءة " فأتوا أن يضيفوهما "، أي : أتوا [لأجل أن] يضيِّفوهما، أي كان إتيانهم لأجل الضِّيافة، وقالوا : غرضنا منه أن يندفع عنَّا هذا اللُّؤم، فامتنع النبيُّ ﷺ وقال :" تغير هذه النُّقطة يوجب دخول الكذب في كلام الله تعالى، وذلك يوجب القدح في الإلهيَّة.
قوله :﴿فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ﴾ أي : فرأيا في القرية حائطاً مائلاً.
وقوله :" أنْ ينْقَضَّ " مفعول للإرادة، و " انقضَّ " يحتمل أن يكون وزنه " انفعل " من انقضاضِ الطائر، أو من القضَّة، وهي الحصى الصِّغار، والمعنى : يريد أن يتفتَّت، كالحصى، ومنه طعام قَضَضٌ، إذا كان فيه حصى صغارٌ، وأن يكون وزنه " افْعَلَّ " كـ " احمَرَّ " من النقض، يقال : نقض البناء ينقضه، إذا هدمه، ويؤيد هذا ما في حرف عبد الله وقراءة الأعمش " يُرِيدُ ليُنْقَضَ " مبنيًّا للمفعول ؛ واللام كهي في قوله ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً﴾ [النساء : ٢٨].
وما قرأ به أبيٌّ " يُرِيدُ أن ينقض " بغير لامِ كيْ.
وقرأ الزهريُّ " أن ينقاضَ " بألف بعد القاف.
قال الفارسي :" هو من قولهم قضته فانقاضَ " أي : هدمته، فانهدم.
قال شهاب الدين : فعلى هذا يكون وزنه ينفعلُ، والأصل :" انْقيضَ " فأبدلت الياء ألفاً، ولمَّا نقل أبو البقاء هذه القراءة قال :" مثل :
٥٤٢
يَحمارُّ " ومقتضى هذا التشبيه : أن يكون وزنه " يفعالَّ " ونقل أبو البقاء : أنه قُرئ كذلك بتخفيف الضاد، قال :" هو من قولك : انقاضَ البناءُ، إذا تهدَّم ".
وقرأ عليٌّ أمير المؤمنين - كرَّم الله وجهه -، وعكرمة في آخرين " يَنقَاصُ " بالصاد مهملة، وهو من قاصه يقيصه، أي : كسره، قال ابن خالويه :" وتقول العرب : انقاصتِ السِّنُّ : إذا انشقَّت طولاً " وأنشد لذي الرّمّة : ٣٥٥٤ -................
.........
مُنقاصٌ ومُنْكثِبُ
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥١٨
وقيل : إذا تصدَّعتْ، كيف كان وأنشد لأبي ذؤيبٍ :[الطويل] ٣٥٥٥ - فراقٌ كقَيْصِ السنِّ، فالصَّبْرَ إنَّه
لكلِّ أنَاسٍ عَثْرةٌ وجُبورُ
ونسبة الإرادة إلى الجدار مجازٌ، وهو شائع جدًّا.
وقد ورد في النَّثر والنَّظم، قال الشاعر :[الوافر] ٣٥٥٦ - يُرِيدُ الرُّمح صَدرَ أبِي بَراءٍ
ويَرْغَبُ عنْ دِمَاءِ بنِي عَقيلٍ
والآية من هذا القبيل.
وكذا قوله :﴿وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ﴾ [الأعراف : ١٥٤] وقوله :﴿أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾ [فصلت : ١١] ومن أنكر [المجاز] مطلقاً أو في القرآن خاصة، تأوَّل ذلك على أنه خُلق للجدارِ حياةٌ وإرادةٌ ؛ كالحيوانات، أو أنَّ الإرادة صدرت من الخضرِ ؛ ليحصل له، ولموسى ما ذكره من العجب.
وهو تعسفٌ كبيرٌ، وقد أنحى الزمخشري على هذا القائل إنحاءً بليغاً جدًّا.
قوله :" فأقَامهُ " قيل :[نقضه]، ثم بناه، قاله ابن عبَّاس.
وقيل : مسحه بيده، فقام، واستوى، وذلك من معجزاته، هكذا ورد في الحديث.
وهو قول سعيد بن جبير.
واعلم أن ذلك العالم، لمَّا فعل ذلك، كانت الحالة حالة اضطرارٍ إلى الطعام، فلذلك نسيَ موسى قوله :﴿إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي﴾ فلا جرم قال :﴿لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً﴾، أي : طلبت على إصلاحك الجدار جعلاً، أي لصرفه في تحصيل المطعوم ؛ فإنك قد علمت أنَّا جياعٌ، وأنَّ أهل القرية لم يطعمونا، فعند ذلك قال الخضر :" هذا فراقُ بَيْنِي وبيْنكَ ".
٥٤٣
قوله :﴿لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو " لتخِذْتَ " بفتح التاء، وكسر الخاء مِنْ تَخِذَ يتْخذُ كـ " تَعِبَ يَتْعَبُ ".
والباقون " لاتَّخذتَ " بهمزة الوصل، وتشديد التاءِ، وفتح الخاء من الاتِّخاذ، واختلف : هل هما من الأخذ، والتاء بدلٌ من الهمزة، ثم تخذف التاء الأولى فيقال : تَخِذَ، كتَقِيَ من " اتَّقَى " نحو قوله :[الطويل] ٣٥٥٧ -...............
تَقِ الله فِينَا والكِتابَ الَّذي تَتْلُو


الصفحة التالية
Icon