فهذا أيضاً محتمل للوجهين.
الثالث : أن في " كان " ضمير الغلام، أي : فكان الغلامُ، والجملة بعده الخبر، وهو أحسن الوجوه.
قوله :﴿فَخَشِينَآ﴾ أي : فعلمنا ﴿أَن يُرْهِقَهُمَا﴾ يفتنهما.
وقال الكلبيُّ : يكلِّفهما طغياناً وكفراً.
وقال سعيد بن جبيرٍ : فخشينا أن يحملهما حبُّه على أن يتابعاه على دينه.
قيل : إنَّ ذلك الغلام كان بالغاً، وكان يقطع الطريق، ويقدم على الأفعال المنكرة، وكان يصير ذلك سبباً لوقوعهما في الفسق، وربما يؤدِّي ذلك الفسق إلى الكفر.
وقيل : كان صبيًّا إلا أن الله تعالى علم منه أنَّه لو صار بالغاً، لحصلت منه تلك المفاسد.
وقيل : الخشية بمعنى الخوف، وغلبة الظنِّ، والله تعالى قد أباح له قتل من غلب على ظنِّه تولُّد المفاسد منه.
فإن قيل : هل يجوز الإقدام على قتل الإنسان لمثل هذا الظنِّ ؟ فالجواب : أنَّه إذا تأكَّد ذلك الظنُّ بوحي الله تعالى إليه، جاز.
قوله :﴿فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا﴾ : قرأ نافع، وأبو عمرو بفتح الباء، وتشديد الدال من
٥٤٦
" بدَّل " هنا، وفي التحريم [الآية : ٥] ﴿أَن يُبْدِلَهُ﴾ وفي القلم [الآية : ٣٢] ﴿أَن يُبْدِلَنَا﴾ والباقون بسكون الباء، وتخفيف الدال من " أبْدلَ " في المواضع الثلاثة، فقيل : هما لغتان بمعنى واحد، وقال ثعلبٌ : الإبدال تنحيةُ جوهرةٍ، واستئناف أخرى ؛ وأنشد :[الرجز]
٣٥٦٣ - عَزْلَ الأميرِ للأمِيرِ المُبدَلِ
قال : ألا تراه نحَّى جسماً، وجعل مكانه آخر، والتبديل : تغيير الصورة إلى غيرها، والجوهرة باقية بعينها ؛ واحتجَّ الفراء بقوله تعالى :﴿يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ [الفرقان : ٧٠] قال : والذي قال ثعلبٌ حسنٌ، إلاَّ أنَّهم يجعلون " أبدلتُ " بمعنى " بدَّلتُ " قال شهاب الدين : ومن ثم، اختلف الناس في قوله تعالى :﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ﴾ [إبراهيم : ٤٨] : هل يتغير الجسمُ والصفة، أو الصفة دون الجسم ؟.
قوله :﴿يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً﴾ أي : يرزقهما الله ولداً خيراً من هذا الغلام " زَكَاةً " أي : ديناً، وصلاحاً.
وقيل : ذكر الزكاة تنبيهاً على مقابلة قول موسى - عليه السلام - " أقتَلْتَ نفساً زكيَّة بغيرِ نفسٍ " فقال العالم : أردنا أن يرزق الله هذين الأبوين خيراً، بدلاً عن ابنهما هذا ولداً يكون خيراً منه بما ذكره من الزَّكاة، ويكون المراد من الزَّكاة الطهارة، وكان قول موسى :" أقَتَلْتَ نَفْساً زكيَّة "، أي : طاهرة، لأنَّها ما وصلت إلى حدِّ البلوغ، فكانت زاكية طاهرة من المعاصي، فقال العالم : إن تلك النفس، وإن كانت طاهرة زاكية في الحال، إلاَّ أنه تعالى علمَ منها أنَّها إذا بلغتْ، أقدمت على الطغيان، والكفر، فأردنا أن يحصل لهما ولدٌ عظيمٌ، أي : أعظم زكاة وطهارة منه، وهو الذي يعلمُ الله منه أنَّه عند البلوغ لا يقدم على شيءٍ من هذه المحظورات.
ومن قال : إنَّ ذلك الغلام كان بالغاً، قال : المراد من وصف نفسه بكونها زاكية أنه لم يظهر عليه ما يوجب قتله.
قوله :" رُحْماً " قرأ ابن عامر " رُحُماً " بضمتين، والباقون بضة وسكون، وهما بمعنى الرحمة ؛ قال رؤبة :[الرجز] ٣٥٦٤ - يَا مُنْزِلَ الرُّحْمِ على إدْريسَا
ومُنْزِلَ اللَّعْنِ على إبْليسَا
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥١٨
وقيل : الرُّحُم بمعنى الرَّحم، وهو لائِقٌ هنا من أجلِ القرابةِ بالولادة ؛ ويؤيِّده قراءة
٥٤٧


الصفحة التالية
Icon