واختلفوا في خوفه من الموالي، فقيل : خافهم على إفساد الدِّين.
وقيل : خاف أن ينتهي أمرُه إليهم بعد موته في مالٍ، وغيره، مع أنَّه عرف من حالهم قصورهم في العلم والقدرة عن القيام ببعضه.
وقيل : يحتمل أن يكون الله قد أعلمه أنَّه لم يبقَ من أنبياء إسرائيل نبيٌّ له أبٌ إلاَّ نبيٌّ واحدٌ، فخاف أن يكون ذلك الواحدُ من بَني عمِّه، إذا لم يكن له ولدٌ، فسأل الله أن يهب له ولداً، يكونُ هو ذلك النبيِّ، والظاهرُ يقتضي أن يكون خائفاً في أمر يهتمُّ بمثله الأنبياء ولا يمتنع أن يكون زكريَّا كان إليه مع النبوة الربانيَّة من جهة الملك ؛ فخاف منهم بعده على أحدهما أو عليهما.
وقوله :" خِفْتُ " خرج على لفظ أصل الماضي، لكنه يفيد أنه في المستقبل أيضاً ؛ كقول الرجل : قد خفتُ أن يكون كذا، أي :" أنَا خَائِفٌ " لا يريدُ أنه قد زال الخوف عنه.
قوله :﴿وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً﴾ أي : أنَّها عاقرٌ في الحال ؛ لأنَّ العاقر لا يجوزُ [أن تحبل في العادة]، ففي الإخبار عنه بلفظ الماضي إعلامٌ بتقادُمِ العهد في ذلكَ، والغرضُ من هذا بيانُ استبعاد حصول الولدِ، فكان إيرادهُ بلفظ الماضِي أقوى، وأيضاً : فقد يوضعُ الماضي، أي : مكان المستقبل، وبالعكس ؛ قال الله تعالى :﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـاهَيْنِ﴾ [المائدة : ١١٦].
وقوله :﴿مِن وَرَآئِي﴾ قال أبو عبيدة : من قُدَّامي، وبين يديَّ.
وقال آخرون : بعد موتي.
فإن قيل : كيف علم حالهم من بعده، وكيف علم أنَّهُمْ يقون بعده، فضلاً عن أن يخاف شرَّهم ؟.
فالجوابُ : أنه قد يعرفُ ذلك بالأمارات والظنّ في حصول الخوف، وربما عرف ببعض الأمارات استمرارهم على عادتهم في الفساد.
وقوله :﴿فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً﴾ الأكثر على أنه طلب الولد، وقيل : بل طلب من يقُوم مقامه، ولداً كان، أو غيره.
والأول أقربُ ؛ لقوله تعالى في سورة آل عمران ؛ حكاية عنه ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ [آل عمران : ٣٨].
وأيضاً : فقوله ها هنا " يَرُثُنِي " يؤيِّده.
وأيضاً : يؤيِّده قوله تعالى في سورة الأنبياء :﴿وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً﴾ [الأنبياء : ٨٩] فدلَّ على أنَّه سأل الولد ؛ لأنَّه أخبر ها هنا أنَّ له مواليَ، وأنَّه غيرُ
١٢
منفردٍ عن الورثةِ، وهذا إن أمكن حمله على وارثٍ يصلح أن يقوم مقامه، لكنَّ حمله على الولد اظهرُ.
واحتجَّ أصحابُ القول [الثالث] بأنَّه لما بشِّر بالولد، استعظمه على سبيل التعجُّب ؛ وقال " أنَّى يكونُ لِي غلامٌ " ولو كان دعاؤُه لطلب الولد، ما استعظم ذلك.
وأجيبَ بأنَّه - عليه السلام - سأل عمَّا يوهب له، أيوهبُ له هو وامرأتهُ على هيئتهما ؟ أو يوهبُ له بأن يُحَوَّلا شابَّيْن، يُولد لمثلهما ؟ ! وهذا يُحْكَى عن الحسن.
وقيل : إنَّ قول زكريَّا - عليه السلام - في الدُّعاء " وكَانتِ امْرَاتِي عاقراً " إنما سأل ولداً من غيرها أو منها ؛ بأن يصلحها الله تعالى للولدِ، فكأنَّه - عليه السلام - قال : أيسْتُ أن يكون لي منها ولدٌ، فهبْ لي من لدنك وليًّا، كيف شئت : إمَّا بأن تصلحها للولادةِ، وإمَّا أن تهبهُ لي من غيرها، فلمَّا بُشِّر بالغلام، سأل أن يرزق منها، أو من غيرها، فأخبر بأنه يرزقه منها.
فصل في المراد بالميراث في الآية واختلفُوا ما المرادُ بالميراثِ، فقال ابنُ عبَّاس، والحسنُ، والضحاك : وراثةُ المالِ في الموضعين.
وقال أبو صالح : وراثةُ النبوَّةِ.
وقال السديُّ، ومجاهدٌ، والشعبيُّ : يَرِثُنِي المال، ويرثُ من آل يعقوب النبوّة.
وهو مرويٌّ أيضاً عن ابن عباس، والحسن، والضحاك.
وقال مجاهدٌ : يرِثُنِي العلم، ويرثُ من آل يعقُوب النبوَّة.
واعلم انَّ لفظ الإرث يستعملُ في جميعها : أمَّا في المال فلقوله تعالى :﴿وَأَوْرَثْنَا بَنِى إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ﴾ [غافر : ٥٣].
وقال - عليه الصلاة والسلام - :" العُلماءُ ورثةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثُوا ديناراً ولا دِرْهَماً، وإنَّما ورَّثُوا العِلْمَ ".
وقال تعالى :﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ [النمل : ١٦] وهذا يحتملُ وراثة الملك، ووارثة النبوَّة، وقد يقال : أورثَنِي هذا غمًّا وحزناً.
١٣


الصفحة التالية
Icon