لسارَّة بأنِّي مخرجٌ منها عبداً، لا يَهُمُّ بمعصيةٍ اسمه حيى، فقال : هَبِي لهُ من اسمكِ حرفاً، فوهبته حرفاً من اسمها، فصار يَحْيَى، وكان اسمُها يسارة، فصار اسمها سارة.
وقيل : لأنَّ يحيى أوَّلُ من آمن بعيسى، فصار قلبه حبًّا بذلك الإيمانِ.
وقيل : إنَّ أمَّ يحيى كانت حاملاً به، فاستقبلتها مريم، وقد حملت بعيسى، فقالت لها أمُّ يحيى : يا مريمُ، أحاملٌ أنت ؟ فقالت : لم تقولين ؟ فقالت : أرى ما في بطني يسجُد لما في بطنك.
قوله :﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ أي : مِنْ أين يكُون لي غرمٌ، والغلامُ : هو الإنسانُ الذكر في ابتداءِ شهوته في الجماع، ويكونُ في التلميذ، يقال : غلامُ ثعلبٍ.
﴿وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً﴾.
أي : وامرأتي عاقرٌ، ولم يقل : عاقرةٌ ؛ لأنَّ من كان على " فاعل " من صفة المؤنَّث ممَّا لم يكن للمذكَّر، فإنَّه لا تدخل فيه الهاءُ، كامرأةٍ عاقرٍ وحائضٍ.
قال الخليلُ : هذه صفاتُ المذكَّر، وصف بها المؤنَّث، كما وصف المذكَّر بالمؤنَّث ؛ حيث قال : رجُلٌ نكَحةٌ، ورُبَعَةٌ، وغلامٌ نُفَعَةٌ.
قوله :" عِتيًّا " : فيه أربعةُ أوجه : أظهرها : أنه مفعولٌ به، أي : بلغتُ عتيًّا من الكبرِ، فعلى هذا " مِنَ الكِبرِ " يجوز أن يتعلَّق بـ " بَلغْتُ " ويجوز أن يتعلق بمحذوفٍ ؛ على أنه حالٌ من " عِتيًّا " لأنه في الأصلِ صفةٌ له ؛ كما قدرته لك.
الثاني : أن يكون مصدراً مؤكَّداً من معنى الفعل ؛ لأنَّ بلوغَ الكبر في معناه.
الثالث : أنَّه مصدر واقعٌ موقع الحالِ من فاعل " بَلَغْتُ " أي : عاتياً، ذا عتيٍّ.
الرابع : أنه تمييزٌ، وعلى هذه الأوجه الثلاثة " مِنْ " مزيدةٌ، ذكره أبو البقاء، والأولُ هو الوجهُ.
والعُتُوُّ : بزنة فعولٍ، وهو مصدر " عَتَا، يَعْتُو " أي : يَبِسَ، وصلُبَ، قال الزمخشريُّ :" وهو اليُبْسُ والجساوةُ في المفاصلِ، والعظام ؛ كالعُودِ القاحل ؛ يقال : عَتَا العُودُ وجسَا، أو بلغتُ من مدارج الكِبرِ، ومراتبه ما يسمَّى عِتيًّا " يريد بقوله :" أوْ بلغْتُ " أنه يجوزُ أن يكون مِنْ " عَتَا يَعْتُو " أي : فسد.
والأصلُ :" عُتُووٌ " بواوين، فاستثقل واوان بعد ضمتين، فكسرتِ التاءُ ؛ تخفيفاً، فانقلبت الواو الأولى ياءً ؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، فاجتمع ياءٌ وواوٌ، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواوُ ياءً، وأدغمت فيها الأولى، وهذا الإعلالُ جارٍ في المفرد هكذا، والجمع : نحو :" عِصِيّ " إلا أنَّ الكثير في المفرد التصحيح ؛ كقوله :﴿وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً﴾
١٨
[الفرقان : ٢١] وقد يعلُّ كهذه الآية، والكثيرُ في الجمع الإعلالُ، وقد يصحَّحُ ؛ نحو :" إنَّكُمْ لتنظرُونَ في نحوٍّ كثيرةٍ " وقالوا : فُتِيٌّ وفُتُوٌّ.
وقرأ الأخوان " عتيًّا " و ﴿صِلِيّاً﴾ [مريم : ٧٠] و " بِكِيّاً " [مريم : ٥٨] و ﴿جِثِيّاً﴾ [مريم : ٧٢] بكسر الفاء للاتباع، والباقون بالضمِّ على الأصلِ.
وقرأ عبدُ الله بن مسعودٍ بفتح الأوَّل من " عتيًّا " و " صَليًّا " جعلهما مصدرين على زنة " فعيلٍ " كالعجيجِ والرَّحيلِ.
وقرأ عبد الله وأبي بم كعبٍ " عُسِيًّا " بضم العين، وكسر السينِ المهملة، وتقدم اشتقاقُ هذه اللفظة في الأعراف، وتصريفها.
والعُتِيُّ والعُسِيُّ : واحدٌ.
يقال : عَتَا يَعْتُو عُتُوًّا، وعتيًّا، فهو عاتٍ، وعَسَا يَعْسُو عُسُوًّا وعسيًّا فهو عَاسٍ، والعَاسي : هو الذي غيرُه طولُ الزمانِ إلى حال البُؤس.
وليل عاتٍ : طويل، وقيل : شديدُ الظلمة.
فصل في هذه الآية سؤالان : أحدهما : لم تعجب زكريَّا - عليه الصلاة والسلام - بقوله :﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ مع أنَّه هو الذي طلب الغلام ؟.
والسؤال الثاني : قوله :﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ هذا التعجُّب يدل على الشك في قدرة الله تعالى على ذلك، وذلك كفر، وهو غير جائز على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ؟.
فالجوابُ عن الأول : أمَّا على قول من قال : ما طلب الولد، فالإشكال زائلٌ، وأمَّا على قول من قال : إنَّه طلب الولد، فالجوابُ أن المقصود من قوله :﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ هو البحث على أنه تعالى يجعلهما شابين، ثم يرزقهما، أو يتركهما شيخين، ويرزقهما الولد، مع الشيخوخة ؟ ويدلُّ عليه قوله تعالى :﴿وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ [الأنبياء : ٨٩، ٩٠].
وما هذا الإصلاحُ إلاَّ أنَّه تعالى أعاد قُوَّة الولادة.
وذكر السديُّ في الجواب وجهاً آخر، فقال : إنَّه لمَّا سمع النداء بالبشارة جاءهُ
١٩